كــــاروك *.. مسرحية

كــــاروك (*)

شخوص المسرحية
– النجار

– الابن

– الأم

– المعلم

– المجنون

– سعيد

مدخل:

أيا ليل كانون، حين ادلهم الردى
وراح الغراب يدق البيوتات دون اكتراث
أما كنت تدري بان الصبايا نيام؟
وان العراق الذي لم ينم،
على شاطئيه يرف السلام..؟
وجئت كذئب هوى من سحاب
تزوغ طريدا.. غريبا
بكفيك يجثو اليباب.
تفزز حلم العذارى وتمسح نجما تراءى لنا باول غيث
نما كالضباب
هنا، نبض قلب العراق
هنا، نور وجه الملاك
فإياك تدنو!
* * *

الابن: يا خشبا يتناثر كالثلج، من أي بقاع قطعتك الأيدي..؟
كنت شجيرات تحمل زقزقة الليل ورفرفة الأجنحة البيض لملائكة
ما نزلت الا لنفخ الروح في بدن الطفل..
(واقفا ما بين التابوت والكاروك)
يا خشبا كن تابوتا
كن حطبا ، لعبا
كن موتا في زي حياة!
(ينظر الى صورة جده المعلقة على الجدار)
يا خشب الجد المفتون بلغة الضوء
هل اسرجت حصان الشهوة ومنحت الابناء
هموم الوطن الدار..؟
جدي!
يا رائحة البارود ونخوة (فدعة)
يا رايات الثوار المبتلين بموج الدم!
وخبز الفقراء ، دموع الأم يكفكفه (الكاروك) المهتز…
المرأة: (تهز الكاروك برفق)
من هذا (الكاروك) ستحبو.. يا ولدي
تكبر كالشجر النابت في الأرض
أرضعك الصبر
الصبر المنقوع بنار التنور
أرضعك الغيرة..
كي تبقى عيناك تحرس هذي الدار..
يا ولدي:
الأرض (شيلة) أمك فأحفظ شرف الأرض
الابن: شرف الأرض..؟!
حرسنا هذا الشرف الطهر
قاتلنا في كل الجبهات كخلية نحل لا تهدأ يوما او تغفو!
المرأة: (تمسد الكاروك) من هذا الكاروك ينبثق الورد
الابن: ويزحف آلاف الجند ، يحتضنون الموت ويلوكون النار بأصابع فولاذ..
أعرفهم (مؤكدا) أعرف تلك النار وذاك الموت..
المرأة: تتباهى بالنار وبالموت..؟
الابن: مذ أول مسمار نامَ بحجر الخشب الصاج
حتى آخر ليل من زمن الغضب الممتد على طول بلاد الله . أتباهى..
أتباهى بالجرح الغائر في صدري
في أيامي البيضاء وأيامي السوداء!
المرأة: يا لؤم الأيام السود…
نزفتم ما يملأ هذا الكون دماء
الابن: ما كنا ندافع عن وطن حسب!
كنا نشد الروح على فوهة المدفع
كي يبقى هذا الكاروك معافى..
المرأة: (بإصرار) ما زالَ معافى.. أحفظه لديك الى ان يأتي مثل خيوط الفجر يملأه لعبا وصراخا..
الابن: دنيا!!
ندخلها بصراخ يهتك لب القلب
نخرج منها بصراخ آخر مطعون.
يا للدنيا.. ما أعطت للمرء أمانا !
مذ أنزلَ آدم من جنات الخلد ..
(يمسك الكاروك بقوة)
يا كاروك..
اعني عليكَ وأنبأني
ماذا يخبيء ذاكَ الغد..؟
نتشبث بالدنيا والموت قريب
يأخذنا اليوم ليوم آخر..
نركض خلفَ توابيتَ الأيام ولا ندري أن غبار السنوات كثيف
مثل غبار الحرب!
النجار: يا ولدي.. ظننتكَ قد خلفتَ الحرب وراءك..
ما بالك تذكرها ثانية
الابن: لو لم تترك أثرا ما كنت سأذكرها!
النجار: تؤلم نفسكَ يا ولدي وتؤلمني.
الابن: هل أنسى (ياسه)
أم أنسى الجمرَ المخبوءَ بصدري..؟
النجار: ابنة عمك ما عادت لك!
الابن: لكنها لي.
أجلني الموت كثيرا
حتى عرفت كيفَ يكون الحب أمام الموت..
النجار: (مؤكدا) صارت زوجا..
الابن: (ساخرا) بل قل جارية تخدم سيدها العاجز عن طرح رجولته
أعرف ياسه.. أعرفها..
(ممسكا بالكاروك)
لو كانت لي لامتلأ الكاروك بطفل يحمل اسمي واسمك!
هل كانَ يشك أخوك بأني سأحيى..؟
آه. ما أقبحه!
النجار: انسَ يا ولدي.. انسَ ياسه!
الابن: (أمام التابوت) أأدفن أيامي في هذا التابوت
وأقيد قلبي في منفى لا رجعة منه..؟
لو كانَ التابوت ينسيني ياسه لفعلت!
النجار: حاولت كثيرا أن أمنع ذاكَ الأمر..
آه يا طمع النفس..
ماذا لو حقق مروان أمانيه وتحسس طعمَ الحب
أما كان له ان يشعرَ بالنصر بعد سني الموت..؟
هل في العمر متسع لأرى ابنك..؟
الابن: هل في العمر متسع لأشهدَ حربا أخرى..؟
النجار: (غاضبا) حرب أخرى..؟
الابن: نقتص فيها مما علق فينا من أدران
نقتص فيها من أنفسنا
من أغبرة غطتنا حتى اليافوخ!
النجار: أهذه حربك..؟
الابن: حرب ملايين الضعفاء في مدن الأرض
حرب الغافين على أرصفة العوز
وتنانير الأهل الباردة المهجورة
النجار: (مؤنبا) لحبك تثأر يا ولدي وأنت حميت الدار؟
الابن: لكني لم اقدر ان احمي ما كان يسر القلب
النجار: لا نتحكم بالأقدار
الابن: هل قدرَ للمرء أن يبقى طريدا طول العمر
يخشى من ظل يتبعه
أو صوت يمنحه اليأس..؟
أقدر هذا يجعلنا ان نفتح أرصدة في بنك الموت..؟
آه.. لم يغلق باب التسجيل لرحلة جهنمنا الصغرى..
النجار: (صارخا به) أجننت….؟
من أجل تخاريف تصرخ..؟
الابن: (يشير الى صورة جده المعلقة)
ذاكَ المكوار الشاخص في الحائط هل كان تخاريف..؟
وذاك الوجه المحفور على صدر التاريخ،
وحوافر خيل الثوار تهز الأرض..
أكان تخاريف..؟
هل نوقد نارا في كتب الأمس كي نكشف زيف حقائقنا..؟
هل نفعل يا أبتي..؟
النجار: تلك جذور تمنحنا الزهو يا ولدي..
الابن: لكننا نجهل أنفسنا..
ونفتش ما بينَ قمامات الزمن الآسن عن نفس أخرى
صرنا مثل شظايا لا تعرف في اي مكان تسقط!
النجار: هل نستغني عن خبز التنور..؟
هل نستغني عن صوت آذان يدعونا..؟
هل نستغني عن (الله بالخير) والتمر البرحي..؟
هل نستغني يا ولدي..؟
الابن: ما عدت أميز ما بين الأشياء
فالكل سواء..
حتى نهاراتي لم تسعفني كي أتلمس دربي!
النجار: (ممسكا بقطعة خشب) خذ درب الخشب،
وستعرف انك لم تجنح لليأس.
الابن: امتلأت رئتي بنشارته وبمنظر هذا التابوت
صرت أدق مسامير في رأسي
المجنون: (يدخل، يضرب بعصاه الأرض)
دمْ…دمْ…دمْ
هذا أول صوت
والآخر يأتي
(يهز الكاروك)
دولابي عبيدان..دولابي عبيدان
راح عيد… و(اجى) عيد
يا دولاب الطفل الباكي
افتر…افتر
وزع أفراحك على كل الأطفال
افتر يا دولاب العيد
أغلق فم سماواتك في وجه الصاروخ الموت
يا دولاب العيد:
كم عيد مر ولم تأت الطفلة
كم عيد مر ولم تأت نور!
قالوا: ان لرحلتها في الصف نشيجا
يسألني الشارع عنها
وملابسها في الكنتور
(نفنوف) العيد ودميتها وشرائط حمراء توزع بسمتها
في كل الأنحاء
(يصرخ) كيف يكون البيت الآمن قبرا يجمع أهل البيت..؟
يا دولاب العيد..دولابي
(يهز الكاروك) يا فرح الكاروك بطفل جاء ليرحل!
النجار: الكل يروح
علينا ان نعرف وجهتنا لا ان نختار!
الابن: هم يختارون طرق الموت لنا
المجنون: (يتمدد داخل التابوت)
يا موت!
هو ذا جسدي
أمته
لا حاجة لي به
يا موت!
هذا الجسد المنخور لا حاجة لي به
خذ منه ما يرضيك
ويطفئ نار الغضب المتأجج في الصدر
يا موت!
خذ عمري. وأعدْ لعيالي الروح
ضحكتهم، نور البيت
(صمت)
هل كان علي ان احملَ وزر الكون؟
النجار: انهض واستغفر ربك
المجنون: استغفرت كثيرا ولم ترجع نور!
ما نفع السقف إذا لم يحم أهل الدار!
(صمت)
انطبق السقف عليهم
راحَ الناس يدوسونَ على رمم الأشلاء
استغفرت كثيرا
من يغفر للأيدي وهي تميت الأبناء!
(يمسك الكاروك)
مجنون يا نور
قالوا عني مجنونا..
أي جنون هذا والموت على الأبواب
يطرق بابا بابا
يتركهم مثل اللحم المثروم
أي جنون هذا يا نور..؟
النجار: فَقَدَ البيت ومن فيه
الابن: أرأيت كيف يكون الحب..؟
(ينظر الى صورة الجد)
جدي… أرأيت..؟
كم قاس هذا الزمن المر
يدحرجنا ككرة الثلج ويقذفنا
جدي!
ان الصبح تغير
والليل تغير
وتغير حتى الإنسان!
سعيد (يدخل، مقتربا من الابن/ مروان مستخدما كرسي للمقعدين)
مَنْ….. مروان..؟!
لم أرك منذ سنين..
الابن: لاه ، ما بين الخشب والمسمار
سعيد: لا أنسى أنك أنقذت حياتي
الابن: لا أنسى أنك كنت تغني في الموضع
أصرت تغني..؟
لم أر وجهك في التلفاز!!
سعيد: (مبتسما) هل يبدو وجهي تلفازيا؟!
الناس تريد وجوها بيضاء طرية
اما وجهي فتيبس مثل الصفصاف!
الابن: وجهك كان يضيء الليلَ ونحن في الساتر
سعيد: كان يضيء الليل!
أما الآن فصار أكثر عتمة
يصحبني العود وأشدو وحدي
الابن: (مستغربا) وحدك..؟!
وأم البيت..؟
سعيد: غيرها الزمن التعبان
(متأوها) تعبت مني!
الابن: كنت سعيدا معها.. ما غيرها؟
سعيد: ما تفعل برجل عادَ من الحرب بلا ساقين
ما تفعل بي..
(صمت)
في الأيام الأولى، كانت تحنو علي
كانت تمطرني بالعطف
تخرجني للنزهة
تشاركني الهم اليومي..
(صمت)
كانت كل الأيام تمر بطيئا
بطيئا جدا
حتى أبطأ تيار القلب
راحت تبتعد عني
كأن الحب ملح ذوبه عجزي!
ورحت أقضي الليل وحيدا..
وعرفت أن الفشلَ صارَ يغطينا بعباءته السوداء
(صمت)
وراحت!
الابن: (مع نفسه) آه، لو تعرف تلك المرأة كم ضحى هذا الرجل
ما عافته وحيدا..
النجار: أتعبني هذا الكاروك
لكن المرأة تستأهل هذا التعب
أتدري، لم يصرخ في الحي طفل منذ سنين
هذا أول طفل يأتي من بعد العقر
وأول كاروك يخرج من ضلع التابوت!
أترى هذي اليد…؟
ان لم يبقَ خشب لهذا الكاروك
علقتها به!
الابن: مذ ماتت أمي بسرطان الدم
وأنت وفي لي ولها، وللأخشاب
النجار: لم أنسَ لحظة أخبرني الدكتور بمرض الموت
أوصتني بك
الابن: قتلوها….
ذابَ اليورانيوم بدمها مثل النار
أي غراب حط على رأس الدنيا
فازدادت شؤما
ندفع موتانا حيث الحور العين، وأنهار الخمر
ندفعهم في درب الصد وما رد..!
ما خبرنا أحد عن تلك الجنة
لكن جهنمَ نعرفها نحن الأحياء!
النجار: ان كنا حقا أحياء
المجنون: (صارخا) لا أعرف أين اختبأت
لا أعرف أين…
معها نور
اختبأت، لا أعرف أين
لكن الناس تقول
اختبأت تحت السقف
لا بل بالسقف
(صمت)
السقف تدانى واختبأ تحت عباءتها
(صمت)
هل يختبئ السقف وينزف
انظروا، هذه نور!
من يملك تلك الضحكة كيف يموت
(يركض صارخا)
من يملك تلك الضحكة كيف يموت؟!
المعلم:(يدخل، منهكا)
يا لضريبة هذا العمر
ندفعها قسرا
تعبت أقدامي من لف الطرقات
كنت أعارض من كانَ يدخن
صرت أبيع الدخان على كل الناس
(صمت)
عرفت الآن كيف يكون جبين المرء كجذع يابس
النجار: اصبر، ما زال الخير هنا….
المعلم: الكل يقول اصبر…
وأنا أيضا كنت أقول سأصبر!
ما نفع الصبر اذا كان الخنجر مغروزا في الصدر
(صمت)
لو كان الخنجر فردا لرضيت
لو كان بلا ألم لرضيت
آه يا سنواتي
لم يبقَ جزء من جسدي لم تمسسه النار
الابن: ما زلت عظيما
المعلم: أحد الطلاب، كان كسولا، وكنت اوبخه
قلت لعل التوبيخ يشده للدرس
عافَ المدرسةَ ومن فيها
(صمت)
بالأمس راحَ يعيرني
أوقف سيارته الفارهة السوداء
ورمى لي قطعةَ نقد:
– أتتذكرني، طالبك الكسلان أنا!
قالَ ومد اصابعه في عيني
كمن يرمي كلبا
صرت كلبا..!
ما نفع الكلب اذا شاخ!
النجار: أنت بنيت قصورا من علمك
المعلم: ابحث عمن يمنحني قبرا!
النجار: يكفيك انك اعددت رجالا
المعلم: ومنهم ذاكَ الكسلان
النجار: لا ننكر حقا لك
أما ذاك الجاحد فالوطن منه براء
المعلم: هل صار الوطن فانوس علاء الدين
يحقق ما طابَ من متع الدنيا
أما كانَ عليه أن يعدل
أن يفصل بين الابن البار وبين الابن الضال
النجار: هذا صعب
المعلم: صعب أن نعرف من يعشق حد النزف
وبين رياء الحب
صعب أن نتفحصَ وجوهَ الناس لنعرف من اكلته النار
أين هو الصعب..؟
أم حينَ يعيرني من فشل في الدرس بعلم لا يجلب الا الجوع!
هذا هو الصعب؟
حين تضيعني الأسواق
اصيح بأسماء أجهلها لعلب لا فائدة منها
هذا هو الصعب!
أن أرجعَ للبيت أعد النقدَ
يتلبسني كابوس الايجار وقائمة الأولاد
من كتب، أحذية، اقلام
وديون تأكل هذا الرأس… هذا هو الصعب!
(صمت)
الابن: كان اذا وقف في الساحة
هز الأرض!
كم وج للدنيا،
آه، لو كانَ بيدي….
آه لو كان!
سعيد: من يمنحني ساقيه لاتبعها..؟
الابن: تتبعها..؟
سعيد: فر القلب مني حين ابتعدت
كنت أراها تمشي في الشارع
قلت لتبعها..
من يمنحني ساقيه لأتبعها..
(صمت)
ما كنت أريدها أن ترجع
لكنْ…. حق المقتول على القاتل!
الابن: لو كان القاتل يعرف هذا الحق
ما صارت أرواح الموتى تفسد طهر الأرض
سعيد: أي عقاب هذا يؤلم لب الروح؟
ما كنت جبانا..
لو كنت…….. ما بترت ساقاي!
أي عقاب هذا ، يؤلم روحي
تؤلمني الوحدة والكرسي
يؤلمني الليل وهو يخط على صدري نهاراتي العرجاء!
الابن: دعك من هذا..
ان الناسَ تعرفك بطلا
سعيد: ساقاه عجلات
يقتات على ذكرى لا تنفع…
الابن: هذا الجسد المقعد كان ذئبا
سعيد: ماذا اقول لخيبات العمر
هذا البطل هجرته امرأة
الابن: الرجل يقاس بماضيه أيضا
ان كان الحاضر لا يسعف!
اتذكر تلك الصولات،
كان الموت بها نحمله على الاكتاف
ندحرجه تحت بساطيل اتلفها الملح
سعيد: من يفهم هذا ..؟
تفهمه امرأتي وهي تعوف الدار لرجل عجز عن غسل يديه
واللحظة تلك ، من يجعلها تفصح عن الم كان بحجم الموت..
الابن: اللحظة تلك ، كانت تحمل ثقل الكون!
نتخندق في الشق ولا نعرف هل نخرج منه ثانية
أم يأكلنا الدود..
هل تهزمك أمرأة يا ذئب..؟
ما كنت اصدق أني أراك ضعيفا..!
سعيد: ان فقدَ المرء ساقيه سيضعف
أي عقاب هذا…..!
(صمت)
المجنون: يا اهل الأرض
هل مر عليكم طير ابيض
بجدائله اشرطة بيضاء
هل مر عليكم هذا الطير..؟
(صمت)
لماذا…؟
لماذا خلقت اذن..
لكي أزداد عذابا..
لماذا…لماذا….لماذا…؟
(صمت)
أرجوك، أرجعهما لي
من أجل صلاة صليتها
من أجل صدقة تصدقت بها
ارجعها من اجلي
انسانك أنا..!
خليفتك!
دعني اتمتع بهما كباقي خلقك
قل للسقف: ارفع ثقلك عن تلك الأجساد
سيكون خفيفا
خفيفا على تلك الأجساد النائمة!
أرجوك!
قل للنار: كوني بردا وسلاما على أهل الدار
ستكون ثلجا
وستغدو أمنا!
أرجوك…
(صمت)
أرجوك، لمَ لا تأمر عزرائيل أن يتوقف عنا!
الرحمة يا رب!
(صمت)
يا أهل الأرض
هل مر عليكم طير أبيض..؟
الابن: كم من الآلام نحملها..؟
النجار: لولا الآلام ما كان الصبر عظيما
الابن: كم من الصبر نحتاج حتى نصل
النجار: ابق عينا تحرسك
والأخرى تخترق الزمن البعيد
امسكْ زمنكَ الآتي بيد من حديد
كي لا تفلت!
واياكَ تفرط
الابن: ما فرطنا في شيء أبدا
ألا يكفي ما أهدرناه من عمر في سوح الحرب؟
متى تخمد هذي النار؟!
النجار: انظر خلفك
قوافل أهلك
وبرق سيوف حمراء
أولئك أجدادك يا ولدي
فرسان الحرب
(يمسك الكاروك)
نحارب يا ولدي من أجل هذا…
ألا يستحق منا الدماء..؟
الابن: من بقايا خشب التابوت صنعت كاروكا
النجار: خشب يحمل هذا… وذاك
سعيد: (لوحده) من اين أجيء بنصف آخر
نصف جسدي الميت ..؟
من يأتيني ويعوضني ساقي
من أين أجيء بساقين
كان علي ان أموتَ معهما
مع تلك الساقين!
كيف تموت الساقان ويبقى الرأس حيا…؟
هل تعرف تلكَ الناس أن الزائرَ للقبر صاحبه..؟
أن الباكي على هذا القبر ، صاحبه…؟
ردي أيتها الساقان…
ردي
أيمكن أن يكون مصير المرء بساقيه…؟
– قطع-
النجار: يا للبشرى!
هذا الكاروك سيحمل طفلا
سيأتي الطفل!
طفل كالضوء يشق الليل..
– قطع-
المعلم: (الى الابن) أتدري يا ولدي
أقسى ما يؤلمك ان تتبرأ أصابعك منك
فاختر أنت: ما بينَ البتر وبين المنة!
الابن: كنت تقول لنا: ان أصابعنا كالقطط
حين نروضها للخير
تفعل خيرا..
المعلم: لكنها قد تترك أثرا في وجهك
الابن: لقد روضت أصابعي على التقاط المسامير والمطرقة والمنشار والخشب
اشعر ان يدي تخشبتا
المعلم: خشبنا البحث وراء الخبز!
الابن: أحببت ابنة عمي… وأحببت وطني
خسرت الأولى فهل اخسر الثانية؟
المعلم: لا شيء سيبقى ان كنت ستخسرها!
– قطع –
سعيد: لقد اخترت طريقي
الابن: لا شيء أمامك الا الصبر
سعيد: طريق اللاعودة!
الابن: أي ضعف هذا…
جاهدت وقاتلت لماذا….؟
ومن اجل من…؟
من أجل طريق اللاعودة..؟
سعيد: لا حل لدي غيره..
الابن: وماذا تقول لذاك البطل فيك… ماذا تقول للذئب..؟
سعيد: لا تذكرني به.
ما عدت أطيقه
الذئب ماض مات
الابن: ان مات الذئب فسوف نموت جميعا!
– قطع-
المجنون: أغلقوا الأبواب
لا تنظروا الى السقف
الموت يأتيكم من سقف الدار
انتبهوا يا أهل الدار
أغلقوا كل نوافذكم …والأبواب
نور!
يا نور!
قالوا في العيد يأتي الأطفال
لمن أعطي عيدية هذا العيد
من يأخذها مني…؟
يا أهل الأرض!
من يأخذ عيدية نور مني..؟
(صمت)
سرقَ الصاروخ آخر أحلام طفولتها
فانطبق السقف على الأرض
وصارَ البيت ترابا
والوجه الطفل ترابا
والحلم المخبوء بصدر الأم ترابا!
(صمت)
يا تراب البيت!
لمَ عفرت جدائلها الحلوة..؟
يا سقف البيت!
أكنت تريد الموت لنور
أم كنت تريد تقبيلها فهويت..؟!
قتلوك يا نور…
صرفوا ملايين الدولارات كي (يهجموا) بيتي..
كي يقتلوا نور!
(صمت)
لم أبك نور
لكني ابكي ضعفي
نور!
ما كان بيدي رد الصاروخ
ما كان بيدي رفع السقف
ما كان بيدي مسك (الطيارات) الموت
لم ابك نور، لكني ابكي ضعفي!
يا أهل الأرض:
اشربوا نخب القتل، ونخب العار!
– قطع-
الابن: هل ولد الطفل..؟
النجار: ممرضة الردهة قالت سيجيء
وأنا ما بين القلق المعجون برائحة الخوف
أدعو الرب..
يا رب، خلصها من ألم يكسر عظم الروح
يا رب، من أين أجيء بنخلتك الفرعاء
لتحجبَ عنها الطلق..؟
هزي بالنخلة يا مريم
هزي بالجذع فلا خوف من الآتي
هزي يساقط منه الخوف
هزي يا مريم!
يا بنت الحي
قد سأم الحي العقر!
مذ آخر طفل مات بصاروخ غادر
لم ترَ طفلا يمسح وجه الليل
يا مريم!
يصبو الحي إليك
فامتشقي الفرخ المخبوء!
المعلم: يا فرح الحي بهذا الطفل
الابن: صامَ الحي طويلا
هل تكسر مريم هذا الصوم..؟
النجار: (الى الكاروك) اهتز يا كاروك!
اهتز وأملأ كل الأرض فرحا
اهتز واكشف عن فرح سترته الدنيا
كنا نوزعه بالمجان على كل الخلق.
وحرمنا منه!
الابن: تبا لخفافيش الليل
لن تلحق بالكاروك أذى
فالكاروك هنا في هذا الصدر!
(قطع)
المجنون: كنت هناك
لم يدخلني أحد كي أرى نور
يا باب المشفى
يا قفصا منع الأحلام كي لا تسري الى قلبي
يا باب المشفى
كنت هناك..
سألوا عن والد تلك الطفلة:
– لا لست أنا.. لست أنا!
هذا الوجه المحروق بنار الموت
هذا الشعر المغبر ليس لنور!
(صمت)
نور حلوة
وجهها كالبدر وعيناها كالنجم
شعرها كالليل
قالوا: خذْ هذا الصندوق وأمض
…….أين؟
أمضي الى أين….
الى أين…؟
(صمت)
أمضي الى القبر
كيف سأدفن لحمي…؟
كيف سأدفن قلبي…؟
ماذا أقول لضحكتها وأنا ألقي ترابا فوق الجسد الغض
هل أقدر….؟
النجار: ستأتي نور ثانية
ويحمل هذا الكاروك من الأطفال ما يملأ عين الدنيا!
يا أهل الحي
(واقفا أمام الكاروك)
طفل الحي سيحضنه الكاروك بدفء الأم
من بين يدي خرج الكاروك سعيدا
سيأتي الطفل محمولا بين ذراعيها
مريم بنت الحي!
اهتز يا كاروك الفرح الآتي
اهتز…
اهتز….
انفض عنكَ غبار الخشب المتروك
انفض عنك غبار الأمس
يا كاروك
قد هيأناكَ ليوم جاء
ستترك صمتك!
وتكركر كالطفل الفرحان بثدي الأم
(صمت)
كم كاروك جمدت فيه الروح ولم يهتز
اهتز يا كاروك الحي
اهتز
اهتز….
المرأة: (قبالة الكاروك)
يا ولدي..
يا لب القلب
هيأت لك الليل غطاء ونهارا أبيض
هيات لك العمر لتغفو في حجر آمن
كم ليل مر وأنت تتوسد أحشائي
خططت لك الحب مع أول نبض
يا ولدي!
أتاملك تكبر … تكبر
تصبح كالطود رجلا يحميني ويحمي الدار
– قطع-
المجنون: يا عار خفافيش الليل
سقط السقف عليهم
سقط السقف
يا عارَ خفافيش الليل!
التراب يكفنها .. تراب السقف
كفن مغبر كالموت!
– قطع-
الام: آه، يا ولدي
قالوا: جاء
أحسست به ينزلق كالفجر
يمسك سرته بيديه
لن يتركني
لن يترك أحشائي
يصرخ كالرعد… اذا زمجر ترتج له أركان المشفى
فتحَ عينيه بعيني
وصاحَ: لماذا..
لماذا…
لماذا….؟
– قطع-
الابن: هناك….
على ضفة النهر
رأيناه بينَ يديه الضياء
أيا نهر هلا رويتَ الطفولة..؟
رويت الرضيع…!
فهذي الجيوش تحاصر كل الخيام
فلم يبقَ الاك : سر غاضبا.
– قطع-
النجار: هل رأيتم دموعَ الرضيع
رضيع البيوت التي لم تنمْ
هل رأيتم ضياء يموت..؟!
(صمت)
لقد ماتَ طفلك مريم!
الأم: لا… لم يمت
فكاروكه أبيض كالجناح
الابن: عيون تسرب منها الذهول
سماء تشظت دخانا
مياه من الجمر صارت تسيل
دروب من التيه والاحتضار
كأن القيامة صارت هنا!

البصرة 20 كانون الثاني 2001
————–
(*) كاروك بالمعنى المجرد (المهد) وهنا ياخذ دلالات أخرى.
ترجمت المسرحية الى اللغة الانجليزية ونشرت في كتاب عام 2017 عنوانه Contemporary Plays from Iraq عن دار مثون دراما ،أشهر دار نشر أجنبيّة بلندن ، متخصّصة بالمسرح ، وقام بترجمة النصوص المختارة ،وتحرير الكتاب :د.عامر الأزرقي الأستاذ في جامعة ووترلو الكندية والبروفيسور جيمس الشمّة الأستاذ بجامعة بولمو بأمريكا ،وتولّى تقديم الكتاب الذي يعدّ أوّل كتاب مسرحي عراقي يصدر باللغة الإنجليزية مارفن كارلسن، وهو أشهر ناقد معاصر في المسرح المقارن .

Share: