رسالة من نقوس المهدي الى الروائي والشاعر والمسرحي عبد الكريم العامري

اليوسفية / المغرب في: 26 – 05 – 2019

( يا اللي ما شفتوني رحمو عليا / وانا راني مشيت والهول داني)
فرقة ناس الغيوان

الصديق الرائع السي عبد الكريم العامري

تحية المودة الصادقة

أحمد العود إلى رسائلنا المتبادلة منذ عشرين سنة ، عقدان من يواقيت الدهر ، كنا نكتب الرسالة على عجل، نستأمنها على ما طاب من أقوال المودة ، وما تيسر من كلمات موغلة في الرقة والطيبة ، نستحلبها من فجوة الخيال الرحب ، ونمهرها بشكر ساعي البريد والشوق إلى النظر في الوجه العزيز ، ونودعها لخفة أجنحة السلامة للفراشات المزركشة بنفح الطيب، وننتظر زمنا قد يطول ، هذه الرسائل التي كنا ندبجها بعشق مكين ، نختار كلماتها ، دون الرجوع لتصحيح هناتها اللغوية أحيانا لإيماننا بأننا نخاطب عبرها أصدقاء فوق العادة وأكثر يصفحون عن زلاتنا الإملائية والنحوية بوافر من الترفع ، ونعبر فيها على سجيتنا وبمطلق حرية القول .. لأنها هي هكذا الرسائل ، وكذلك يجب أن تكون .. من القلب الى القلب ، مجردة من اي بروتوكولات وخاوية من كل تصنع ورياء وحساسيات .. الرسائل هي التي تكتب بمنتهى الحرية والبراءة ، دون الخضوع لمراقبة ذاتية ، لاعتقادنا أيضا و ايضا بأننا نكتب لأصدقاء لم نلتقهم قط وقد لا نلتقيهم ابدا، ولا نعرف كثيرا عن طرق العيش وسلوكات البلد ، ومناخاته الثقافية والاجتماعية على الخصوص ، الا ما تسعفنا به أحاديثهم ، اما ما يدخل في باب السياسة والاقتصاد فنحن في الهم شرق.. اي أننا ( مسقيين بمغرفة واحدة) كما نقول في مغرب الغرائب
صديقي العزيز
حينما أسررت لي قبل أسبوعين بإرسال بعض رسائلنا لإغناء ملف رسائل أصدقائك وخلانك كي نعاكس التاريخ الذي يشتد في النسيان و يمعن في النكران .. فكرت في إرسالها كاملة بالتتالي و الترتيب بحسب تاريخها الذي يبتدئ بيوم ما في نهاية سنة 1999 الى 03 – 01 – 2003.. و حفزني هذا النداء على إعادة قراءتها من جديد ، فأيقظت في خاطري العديد من الذكريات والهواجس ، وأججت في دواخلي الكثير من التداعيات والأحاسيس الجياشة .. وأعادتني ردحا من الزمن إلى الخلف .. الزمن الجميل بلا شك ، عقدان كنا فيهما على مشارف غروب الشباب ، مفعمين حماسا وتمردا .. ممتلئين نشاطا وحيوية .. متعتعين تمردا وثورة .. وما فضل لنا من يقين التغيير ، خاصة نحن جيل الهزائم والنكسات والخيبات ، و الثورات الجميلة والنظيفة ، والاشعار الحماسية .. حتى ترسخ لدي اقتناع بان من لم يعش فترة الستينات والسبعينات من القرن الفائت كأنه لا عاش ولا رأى.
إنه أزهى فصول التاريخ الحديث على وجه الاطلاق ، عقد انبثق من رحم الهزيمة ، فشب أهله عن الطوق ، متمردين ناقمين متذمرين ، محدثين قطيعة مع الماضي الكئيب ، مؤمنين بأن أحسن القصائد والكتابات عن الثورات هي الثورات نفسها يا صديقي ، فشربنا ألذ الخمور ، ولبسنا أزهى الثياب ، وجربنا ابهى الموضات ، واستمعنا لأحلى الأشعار ، وقرأنا أهم الروايات ، وطالعنا أروع الكتب ، واستمتعنا بأحسن الأغاني ، وجايلنا أجمل المدارس في الأدب والفلسفة والسينما ، وشاهدنا أعظم التقليعات في السياسة والاجتماع والاقتصاد ، و انبهرنا بمشروع فكري ضخم ، يمثله حسين مروة، ومهدي عامل والطيب تيزيني وفرج فودة وصبحي الصالح ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي وعبدالله العروي وعلي الوردي ، والمهدي المنجرة ، و جماعة كركوك ” أرابخا” ، و شعراء المقاومة ، و فرق ناس الغيوان وجيل جيلالة ، مارسيل خليفة ، الشيخ إمام عيسى وأحمد فؤاد نجم ، و فرقة الميادين والطريق ، وآخرون ممن حملوا مشعل الفكر الحر والكلمة الهادفة والاغنية الملتزمة وأشياء أخرى قبل أن تسيطر قوى الظلام والتخلف في أزمنة الرداءات الفظيعة والخيبات الكئيبة وبداية سيطرة القوى الظلامية ومحاربتها بالعنف والقتل لرموز الفكر التنويري ، وطغيان فتاوى جهاد النكاح والكبت والجهل
كانت تلك المراسلات تجيش بكثير من الأفكار التي استوطنت مخيالنا .. وشهدت على نهاية مرحلة حاسمة من تاريخ العرب. وبداية مرحلة أكثر بؤسا وترديا . وتدبدبا وهشاشة . أدت إلى اندحار اليسار أمام جحافل الظلام ، وانسحابه من الركح تاركا الفرصة لصعود كائنات غريبة اكتسحت الساحة. فأصبح الفكر اشد استفزازا واكثر قدرية ، والسياسة أكثر عشوائية واعتباطية
حتى وسائل الاتصال الحديثة التي توسمنا فيها خيرا ، ساعدت على توسيع الهوة بين الناس ، وملأت حياتهم بالنفاق والكذب والمراوغة والجفاء والتعالم والغرور ، وساعدت على إفساد العلاقات وتدمير العقل والإجهاز على اللغة وإجهاض المشاريع الفكرية ، و أججت النيران الصديقة ، و التقدم العلمي الذي يستخدمه الغرب في امور انسانية ، وظفه العرب بشكل ارتكاسي ، ولم يزدهم الا عطشا للابتزاز والمتاجرة بآلام الناس ومشاكلهم
و لقد تغيرت خلال هذين العقدين الكثير من القناعات ، وتزعزعت العديد من الثوابت والقيم .. واستبدل القناع السياسي للدول العربية بما هو أفظع .. وحل بعبع الدين محل العديد من المعتقدات والأماني الجميلة التي كنا نشيد بها ، و نشيد عليها أمالنا في التغيير. و أصبحت الشعارات الثورية والأدبيات الماركسية حطبا ، و تحولت المعتقدات التقدمية إلى مرض و مراهقة سياسية و تقلبات نزوية
ذلك أن بلادنا برغم تبوئها طليعة المراتب الأولى تخلفا وانتكاسا وانحطاطا ، و نحتل كل المراتب الدنيا عالميا على مستوى الخدمات الاجتماعية ، والصحة، والتعليم والأمن و العدل ، الى جانب ارتفاع معدلات الفقر والبطالة ، وغياب الديمقراطية ، وتمركز الثروات بين ايدي كمشة معلومة من المرتزقة والمتكسبين ، و انتهاك حقوق الإنسان ، واختلاس المال العام ، وبرغم كل هذا الوبال فإنها لاتزال تدور في فلك غريب عن عالمنا وعن إرادة الشعوب .. والحاكم فينا لا يعشق إلا ان يموت ميتة الكلاب والجيف منبوذا محتقرا حقيرا ومطاردا .. بعد ان يدمر البلد ويشرد أهاليه ويشعل الفتن ويذكي نزعة الطائفية .. ويساعد على تكريس خطاب التطرف والعنف ، وفي وقت يستنسر فيه المد الإسلاموي الرهيب ويفشي كبته وشجعه وحبه للغنائم . هذا المد الفظيع الذي سوف يفتت كيان الأمة العربية ويحيلها إلى دويلات لقيطة مبنية على الفوضى والدم والإرهاب والارتزاق باسم الدين الذي أصبح محط جدال بين العالمين
صديقي الأعز
هل ينتهي المرء بانتهاء ثوريته .. كما انتهى الأمر بعبد الوهاب البياتي و عبدالرزاق عبد الواحد وسعدي يوسف ، والسياب ، وسلموا أسلحتهم وعتادهم الشعري لأقرب ثكنة شعرية.. إما بالانحياز للطاغوت او اللهاث وراء حياة وردية أبيقورية او الاستسلام لبراثن المرض
في الوقت الذي لم يسقط جان دمو وكزار حنتوش وعقيل علي وحسين مردان وعبد الأمير الحصيري ومظفر النواب ومحمود البريكان وحسين البلتاجي وعبد الله راجع ومحمد زفزاف وعثمان لوصيف وأحمد فؤاد نجم وعبدالحميد الديب وعلي الدوعاجي وصنع الله إبراهيم ، و كوكبة عظيمة من البوهيميين الأقرب إلى الخيال أثخنهم القدر جراحا وتجريحا ، لكنهم ظلوا أقوياء شامخين كالنخيل ، يستمدون عظمتهم من كبريائهم ، و يتخذون من بؤسهم جوهر الحياة وإكسيرا لها ، في وقت تصنع الأنظمة العبثية جوقاتها ومريديها من الكتبة المأجورين والبصاصين والمريدين والمنبطحين
المال يقفل الافواه
حينما أراد عزت العلايلي أن يرفع الشيخ الإمام كي يحضروه للغسل.. سقطت من عباءته ” تعريفة” عملة أقل من السنتيم .. صرخ العلايلي: ( لو أراد هذا الرجل أن يموت أغنى من محمد عبد الوهاب لما منعه أحد لكنه اختار طريق الغلابة)
لكنها القناعة يا صديقي تطيل العمر وتكسب المرء مناعة ، وتلقن الصبر والمروءة وحب الناس
والآن ماذا تبقى من تلك المكتسبات؟..
وماذا يمكن أن تاتي به الايام القادمة من رخاء ويسر وحريات وسلام؟
لا شيء تقريبا
وبشك مشوب بوافر من اليقين
لا شيء على الإطلاق
( ماذا سنخلف لأطفالنا ؟
ماذا سنخلف لهم في القرن المقبل ؟
هل سنخلف لهم سموما حارة ؟
هل سنخلف لهم موتا جاهزا ؟
هل سنخلف لهم جنائز ؟
هكذا قال جان دمو كلمته وانصرف
( فلتكن لأنك قد حملت الاسم الذي يليق بالإنسان حتى النهاية )
مظفر النواب

واسلم لاخيك

نقوس المهدي
– اليوسفية
01.40

Share: