نخلـــــــــــة.. مسرحية

عبدالكريم العامري شاعر وروائي واعلامي ومسرحي عربي حاز العديد من الجوائز بمسرحياته في مختلف المحافل العراقية.. اقرأ له منذ أزيد من عقدين من صداقة طيبة .. اقرأ اليوم مسرحيته التي بين ايدينا والتي تجسد في الزوجة نخلة وهو لقب يدل على الصبر والشموخ والكبرياء .. نخلة لا ترضى بالذل والاهانة امام اعتقال الزوج وتغييبه ، ومحاولة تعويضه بكيس من المال وكم هائل من الاهانات وذل السؤال في المخافر والمعتقلات.. شيء يذكرني بقصيدة مظفر النواب براءة أم ، وبنخلة الشاعر التونسي الطاهر الهماي التي استلهمها في العديد من منجزه الشعري
نخلة مسرحية واعدة وشائقة من أدب السجن هذا اللون الادبي المنتعش في شرق متوسطنا الكئيب .

(الناقد القاص المغربي نقوس المهدي)

الشخوص:

1- نخلة   امرأة في عقدها السادس

2- الزوج

3- الرجل/1     سكرتير الابن

4- الرجل/2     نزيل مع الزوج في السجن

5- الابن  

6- رجال حماية     

(منزل بسيط جدا، ساعة جدارية على الحائط توقفت عقاربها عند السابعة وعشرين دقيقة، صورة قديمة للزوج علقت أسفل الساعة، نخلة تقف امام الصورة وتخط بقلم في الحائط الذي ملأته الخطوط التي تشير الى الزمن)

نخلة: عشرون عاما مضت وأنا أضع أيامي أمامي خطوطاً داكنة، هذا كل ما بقي لي، صورتك وساعة توقفت عقاربها مع توقف دقات قلبك.. هي ذي ساعتك عابسة كأيامي، كل شيء توقف بغيابك، حتى النهار يجيء ويمضي سريعاً، يغلّفني الليل بكوابيس ترهق رأسي، أقضّيه على وسادة كأنّ حزن الكون فيها، تمضي السنوات تباعاَ، لا أحد يطرق بابي إلّا يد تحمل الصدقات، تصفعني بلا ذنب، تجلدني عيون الجيران وهي ترمقني بعطف، خطيّة.. هذه النخلة خطيّة، (تجلس) صرتُ بعد عزٍّ خطيّة، وبعد رغدٍ تعاسة.

(بقعة ضوء، يظهر الرجل/1 بهندام جميل يقف أمامها ويقدم لها كيس نقود)

الرجل/1: هذا ما يبدد تعاستك..

نخلة: (تنظر له) ها أنت ذا تعود ثانية..

الرجل/1: لأعطيك هذا.. (يشير الى الكيس)

نخلة: صدقة تتلوها صدقة.

الرجل/1: هذا من فضل الله!

نخلة: حاشا الله أن يرضى بذلّي..

الرجل/1: من قال ذلّا…؟ هذا من فضله !

نخلة: خمسة أعوام وأنت تأتيني بصدقاتك حتى دون أن أعرفك..

الرجل/1: ما أنا إلّا عبد مأمور..

نخلة: من يأمرك.. (تصمت) لا تقل لي الله، لأنه قادر على ان يعطيني دون حاجة لك او لغيرك..

الرجل/1: كلنا نحتاج لبعضنا..

نخلة: (مبتسمة) ذكّرتني بالماضي يوم كنّا نعطي دون أن نأخذ، نعطي كي نثبت إنسانيتنا..

الرجل/1: اعطيناكِ ولا ننتظر أن نأخذ منك شيئاً..

نخلة: كلّ صدقة تأتيني بها تطوّق عنقي حتى ان كانت كلمة عطف، آه لو تعرف ما أنا فيه الآن، لو خيّروني بين جنّة الصدقات، وجحيم الكرامة، لاخترت النار..

الرجل/1: ليست صدقات يا خالة..

نخلة: لستُ بهذا الغباء كي تقنعني، حين اشتدَّ عليّ ضنك العيش تعلمتُ الكثير، آهٍ لو تعلم كم هصرتني الأيام، وفتكت بي.. كلّ عرق في يديَّ هاتين، رسمته السنوات بدبابيس توجع الحجر، وتقول ليست صدقات، توهمني أنّ هناك من يبذلُ ماله لوجهِ الله.

الرجل/1: استحلفكِ باللهِ يا خالة، خذي هذا مني (يمد لها الكيس)

نخلة: (تدفع يده) من هو…؟

الرجل/1: (صامتاً)

نخلة: إرجعه اليه..

الرجل/1: أعرف كم أخذ منكِ الزمان يا خالة، لكنّه جزء من التعويض عمّا فات..

نخلة: تعويض عن ماذا…؟ هل يعيد إليّ التعويض زوجي، هل يعيد إليّ ولدي، هل يعيد أيامي التي قضيتها وانا أتنقلُ من سجنٍ الى سجن، حتى عرفني كلّ السجّانين، وراحوا يتندرون، كلما جئت أسألهم: ها قد جاءت نخلة، يا نخلة متى نتذوق رطبكِ…؟ قضيت شبابي، وأنا أطوفُ المدنَ، من مدينةٍ الى أخرى، ذبلَ عودي وانا أنتظر، سنوات طويلة من الانتظار.. هل تذوّقتَ يوماً مرارةَ الانتظار…؟ سنوات وأنا أبحث، أنا الباحثةُ عن رأسِ خيطٍ يدلّني عليهما.. هل عرفتَ الآن كم أخذَ مني الزمان…؟

الرجل/1: (صامتاً)

نخلة: في كلّ مرةٍ تجيء إليّ فيها، كنتُ أحبسُ روحي في نفق الأيام، اقنعُ نفسي أنَّ القادمَ سيأتيني بخبرٍ يردّ إليّ الروح، وحين تمضي، يلفّني القلق، ويمضي الأملُ بعيداً..

الرجل/1: يا لهذا الصبر…!

نخلة: مجبرةٌ على أن أصبر، كلُّ لحظةٍ فيه تفتتُ عظامي..

الرجل/1: خذيهِ هذه المرة يا خالة، وأعدكِ أننا سنفكر بما يجعل حياتك أفضل..

نخلة: لم يبقَ الا القليل، أنا راضيةٌ بما أرادهُ الله..

الرجل/1: لكن هناك من هو غيرُ راضٍ..

نخلة: من هذا الذي يخالفُ إرادةَ الرب…؟

الرجل/1: (صامتا)

نخلة: دع الخلقَ للخالق..

الرجل/1: (يضع كيس النقود على الطاولة ويغادر)

(اظــــلام)

(بقعة ضوء، الزوج يحمل كتبا ويضعها في موقد امامه)

الزوج: هاتِ بقية الكتب..

نخلة: لم يبقَ إلّا القرآن.. أتحرقه أيضا!!

الزوج: (يتوقف)

نخلة: كنتُ أقولُ لك، ما حاجتنا لكلّ تلك الكتب، إذا كانت لديك حاجة بالقراءة، إذهب الى المكتبة العامة، واقرأ هناك..

الزوج: هذه الكتب لا يضعونها في المكتبات..

نخلة: أليست كتباً..

الزوج: الكتبُ الممنوعةُ لا مكان لها في مكتباتهم.

نخلة: عجيب أمر الكتب، يمنعون بعضها، ويسمحون لأخرى..

الزوج: الكتب مثل الأقفال والمفاتيح، هم يمنعون مفاتيح الكتب، بينما تلك التي تقفل العقول يشيعونها..

نخلة: (تفكر) لم أفهم!

الزوج: ساعديني على حرقها وستعرفين..

نخلة: (وهي تضع الكتب في الموقد) الكتب التي نحرقها هي مفاتيح، وليست أقفال. أليس كذلك…؟

الزوج: تنير العقول وتفتحها، نتذوقها نحن كالعسل، فيما مفعولها كالسمّ للآخرين..

نحلة: ومن هم الآخرون…؟

الزوج: (يتوقف قليلا وينظر لها) ستعرفينهم…؟

نحلة: (تنهض) أوووف، كلما استفسرت عن شيء تجيبني بكلمة ستعرفينهم، لديك كل تلك المفاتيح كما تقول، واجاباتك طلاسم..

الزوج: لا أريد أن أشغلكِ معي. يكفيك ما أنت عليه..

نخلة: نحن في مركب واحد يا زوجي، إمّا أن نعيش سوية، أو نغرق سوية..

الزوج: (يرمي آخر كتاب في الموقد) نعيش سوية ولا نغرق..

نخلة: لِمَ لا تترك كل هذا وتهتم بولدك، لا يمكنك تغيير العالم.

الزوج: هناك كثيرون مثلي.

نخلة: لا تكن طيباً، من هو معك اليوم سيكون عليك غداً..

الزوج: هذا أمر يعنيني.

نخلة: ويعنيني أنا أيضاً، البلد يلتهب، وعيون المخبرين تترصدك، ماذا لو غيّبوك عنا..

الزوج: اطوِ خوفكِ واهدأي، ما ترسمه الأقدار لنا، لا يمكن أن نلويها..

نخلة: لكنها ستلوينا، وتشتت هذه الدار..

الزوج: (باسماً) بيت نخلة باقٍ.!

نخلة: ما نفع البيت بلا أنفاس، ما نفع الجدران غير إنها مقابر تعلّق عليها وجوهاً بابتسامات جامدة. ما نفع الأسرّة ان لم تحمل دفء الأجساد. ما نفع الأبواب ان لم تطرقها أيدٍ. ما نفع الشبابيك ان لم تزرها العصافير وضوء الشمس..

الزوج: بيوت كهذه يُشار لها في كل زمان، يشار لأهلها..

نخلة: أهلها…؟ هم هناك. في تقاطعات الطرق يمدّون ايديهم للمارّة، يخفون ماء وجوههم مثل من اقترف ذنباً، هناك نساء بعباءات غيّرت لونها الشمس، يبست جلودهن وصرنَ حطباً في زمن لا يرحم. هناك أطفال بلا مدارس ماتت طفولتهم وضاعوا.

الزوج: فرقٌ بين ما ترينه، وبين ما يسجّله التاريخ لهم.!

نخلة: تبّاً للتاريخ! أيّ قلم يخطّ تاريخ أولئك البؤساء، تاريخ يمجّد هذا وذاك، فيما يتناسى البسطاء وقود انتصاراتهم الزائفة.

(بقعة ضوء على نخلة)

نخلة: (تكمل) ها أنت ذا مثلما أحرقت كتبك أحرقت قلبي، ما زالت نظراتك وأنت ملقى بين أيدي المخبرين ملتصقة بي، آخر تلك النظرات، كانت قبل أن يعصبوا عينيك، ويغلقوا عليّ أبواب العافية، ضعت حقاً بغيابك، وضاع عمري.

(تدور في المكان، يغيب الزوج)

كلّ شيء هنا يذكرني بك، أكاد أن أراكَ في كلّ جدار، عيناي ملتصقتان في الباب، لعلّ الزمان يعيدك إليّ، سنوات تأكل سنوات، والباب لا يطرق. كرهتُ أيامي، ولياليّ، ونظرات الناس، أين ذاك التاريخ الذي صدّقته. ضيّعوك كما ضيّعوا أصحابك، ولم يذكرك أحد. صرتم سلالم تسلّق عليها الآخرون.

(تفتح الكيس الذي تركه الرجل/1 ثم تضعه في حقيبة قريبة منها)

لا حاجة لي به (تمسك بعض خوص النخلة المزروعة بباب دارها) خوصُ نخلتك التي زرعتها دخل كلّ دار، أظفره وأزيّنه وأبيعه، مصدر رزقي الحلال، نخلتاك ما زالتا تنتظران، أما شدّك الحنين لدارك إن كنت حيّا، من غيّبوك غابوا وأنت لم تعد، من حاصروك رحلوا، دارت عليهم الدوائر، وان كنت ميتاً فلماذا لم تزرني روحك…؟

(صوت طرقات على الباب، نخلة تنظر الى الباب بفرح، تركض نحوه لكنها تفاجأ بدخول الرجل/2، تنظر له بذهول)

الرجل/2: (واقفا امامها ويقدم لها كيساً)

نخلة: صدقة أخرى…؟ يا الله، كم من الذلّ أتحملهُ..

الرجل/2: ما جئتُ أتصدّق..

نخلة: تؤلمني نظرات العطف كثيراً، لست بحاجة الى أيّ شيء، لديّ ما يكفي لأعيش..

الرجل/2: لديّ أمانة لك، وعليّ ردّها..

نخلة: (تنظر بداخل الكيس ثم الى الرجل) هل رأيتهُ…؟

الرجل/2: كنت معه، في قاعة واحدة..

نخلة: (بفرح) لماذا لم يأتِ معك.. ما الذي أّخّره..؟

الرجل/2: كل مساء، كان يحلمُ أن يطرقَ بابك، حدّثني عنكِ كثيراً، عن صبركِ وقوّتكِ..

نخلة: لم أعد قويّةً كما كنت، وصبري بدأ ينفد..

الرجل/2: قال لي، قد ينفد ماء البحر وصبرها لا ينفد، صبرت كثيراً، تحمّلت قلقي، وغيابي المستمر، لم تسألني عن ذلك أبداً رغم أني أقرأ قلقها المستديم.. طالما حدّثتني عن خوفها من الآتي، وكنت أقول لها مجرد أوهام.. (يصمت)

نخلة: تلك الأوهام صارت حقائق.. والخوف تجلّى بغيابه..

الرجل/2: لعنَ الله سنوات الخوف، ما كنت أظن أنها ستمضي..

نخلة: مضت، لكنها أخذت أعمارنا، وأحبابنا… (تنتبه وكأنها تتذكر) ها…قل لي، لماذا لم يأتِ معك…؟

الرجل/2: في ليلة ماطرة، جاء السجّانون واخذوا أربعة منّا، كان هو واحد منهم، ذهبوا بهم، ولم يعودوا..

نخلة: (تجلس يائسة) قتلوه الكلاب…!

الرجل/2: كنت أظن أنهم أطلقوا سراحه، وعدت أعيد اليه أغراضه..

نخلة: أنا بحاجة اليه، وليس لأغراضه..

الرجل/2: كلّنا بحاجة اليه، لم أرَ رجلاً يزرع الأملَ في النفوس مثله، حين يباغتنا اليأس، ونتذكر الأهل بعد وجبة تعذيب، كان يفتح أمامنا أفقاً من ضوء، يشدّ من أزرنا، ويسرد علينا حكايات مليئة بالعبر، والدروس، لم أرَ رجلاً بمثل شجاعته وقوته..

(إظلام، يظهر الزوج وهو في السجن مع الرجل/2)

الزوج: إن وضعت قدميك على الطريق، فكن واثقاً أنك ستصل، لا تتردد في خطوك، لا تلتفت الى الوراء، هناك من يحاول إيقافك، لن يتمكن منك، ما دمت تمتلك الإرادة.

الرجل/2: ليتني استطعت..

الزوج: وما الذي يمنعك…؟

الرجل/2: نحن معشر الفقراء، مكتوب علينا ان لا تعبر احلامنا خط الخبز، كلّ أحلامنا تتجلى في البحث عن قوت يجنّبنا الآخر..

الزوج: لن يأتيك الخبز وأنت قاعد تتفرج، عليك ان تنهض..

الرجل/2: من أثقلته الأيّام، وحمّلته ما لا طاقة له به، كيف يستطيع أن ينهض..

الزوج: لم أكن بأحسن حال منك، لكنّي نهضت..

الرجل/2: نهضت…! وجاؤوا بك سجيناً..

الزوج: وأنت أيضاً، جاؤوا بك، وعذبوك، ولم ينفعك قعودك..

الرجل/2: لأن القدر أراد لي هذا، وإلا كيف يلقى بجثةٍ في باب داري وأكون متهماً بالقتل…؟ لم تنفع معهم شهادة الجيران وهم يعرفون أني لا أقوى على ذبح دجاجة، هكذا حمّلوني وزر جريمة لم اقترفها، ألصقوا الجريمة بي..

الزوج: القدر الذي تتحدث عنه صنعته بيديك، هذا ليس قدراً، هو الظلم بعينه.. وما دمت راضياً به فلن يتغير الحال، ولن تتغير البلاد، عليك ان تبدأ خطوتك بإرادتك كي لا تلقى جثتك في المرة اللاحقة بباب دارك…!

(اظلام- نخلة ما زالت مع الرجل/2)

الرجل/2: (مكملا) كان زوجكِ قويّا وعنيداً، وهذا ما شجّعني على أن أصبر حتى أرى نخلته التي صارت حكاية ألف نهار ونهار، وأرى قوّتها وبأسها..

نخلة: من تراها أمامك فيها من الضعف ما لا تتوقعه.. سنوات الصبر أكلت من جرف حياتي، ما بين القلق والانتظار يبست روحي.. ليتهم لم ينتزعوه من داري، ليتهم تركوه..

الرجل/2: السلطة لا ترغب فيمن يعارضها حتى لو في الحلم، زرعوا عيوناً في قلوبنا نخشاها، لن نقدر ان نهمس مع أنفسنا بكلمة تغيضها، كانوا يريدوننا أتباعاً، نصفّق لهم وهم الخطّاؤون، نتّبعهم صاغرين، يريدوننا أن نكون كلاب حراسة لهم، مجرد كلاب، نركض خلف من يطعمنا بذل..

نخلة: هذا ليس كلامك..

الرجل/2: كلامه هو.. زوجك، زرعهُ في رأسي، وانتشيت به مقتنعا، هو مثل الضوء يبدو جلياً في العتمة، يبدد حلكتها ويحيلها الى نهار..

نخلة: يبعث الضوء في الصدور، ويترك لي العتمة، تركني أهيم في ليالٍ طويلة لم تنتهِ، تنتابني فيها الكوابيس مثل دبابيس مؤلمة..

الرجل/2: لم يوصِ أحداً بكما غيري، تمنّى أن يرى إبنه.. (يلتفت يمينا وشمالا) ترى أين هو ابنك…؟

نخلة: فكوك الزمن التعس إن اختارت احداً لا تتركه الا وهو صريعاً..

الرجل/2: أخذوه هو الآخر…؟

نخلة: في ذاكَ الزمن النحس، هناك من يُغيّبن وهناك من يغيب.! ضاع مني، لم أره منذ سنين، حين ينفرط عقد الأب، ينفرط معه الجميع..

الرجل/2: ان لم يأخذوه، فلماذا لم يسأل عنك…؟

نخلة: لكلّ غائبٍ عذر..

الرجل/2: أيّ ولد هذا، ألم يكن له قلب، ما ذنبك وأنت تتحرقين شوقاً لرؤيته..

نخلة: قلوب الأبناء مثل أشرعةٍ تتقاذفها الريح، تميل حيثما تجد متكئاً آمناً..

الرجل/2: وهل هناك مكاناً آمناً أفضل من حضن الأم…؟

نخلة: ليتهُ الآن في مكانٍ آمنٍ، هذا كلّ ما أطلبه من ربي، هو بقيّة عمري..

(أصوات سيارات شرطة تسمع في الخارج، يدخل رجلا حماية مرتديان زيا عسكريا وهما مدججان بالسلاح)

نخلة: (تنظر إليهم) ذات الوجوه التي رأيتها قبل عشرين عاماً، أرأيتهم.. (تشير الى الرجل/2)

رجل الحماية: (الى الرجل/2) أنت…. اخرج من هنا..

الرجل/2: (يكتفي بالنظر الى نخلة ومن ثم يخرج)

نخلة: أما كفاكم ما أخذتم مني، زوجي وأعدمتموه، ولدي وضيعتموه.. لم يبقَ لي أحد غير تلك النخلة في باب داري..

(يدخل الابن ومعه الرجل/1)

نخلة: (تنظر الى الرجل/1) أنت مرة أخرى، ألم أقل لك من قبل ان لا تأتي…؟

الرجل/2: أمرتيني ان آتي اليك بباعث المال.. ذاك الذي يجعلك تعيشين بكرامة..

نخلة: ما عرفت الكرامة بصدقاتكم، كلما أنساها، تعود أنت لتذكرني بالذل..

(الابن يتقدم نحوها ويرفع نظارته)

نخلة: (تحدق به) كأني اعرفك.. (تدور حوله وتتفحصه) من أنت…؟ (تنظر الى الرجل/1) هو الذي كان يتصدق عليّ أليس كذلك…؟ هو صاحب المال، ها.. قل لي هل هو هذا…؟

الابن: ما كنت أرسله ليست صدقات.. ذاك كان مالك.. وحقّك..

نخلة: حقّي في ماذا…؟ تحطّمون حياتي لتدفعوا لي، أيّ مال تدفعون يعوضني عن كل خساراتي.. لست بحاجة الى وساخاتكم وعطفكم.. لست بحاجة لكم، تقطعون جذور سعادتي لتأتوني بالمال.. أيّ بشر أنتم…؟

الابن: كان حقك عليّ، أنا ابنك..

نخلة: (تصمت وتنظر له بذهول) ابني…. ابني من…؟

الرجل/1: سيادة الوزير، هو ابنك يا خالة..

نخلة: (الى الابن) أنت وزير…؟

الابن: بل ابنك يا أمّي.. (يتقرب منها وهو يخرج جنسيته لكنها تبتعد عنه) أنا ابنك، وهذه جنسيتي…!

نخلة: أتراني أحتاج لجنسية لكي أعرف ابني…؟ الجناسي لا تغيّر شيئاً، أسماء وأوراق خلت من الحب والصدق والوفاء.. أنا لا أعرفك.. لست إبني، بوصلة قلبي لا تشير اليك.. لا يترك الابن أمّه تعاني.. لو كنت ابني لماذا لم تزرني…؟

الابن: هي الظروف يا أمّي…!

نخلة: لا تقل يا أمّي… سيادة الوزير! أيّة ظروف منعتك من أن تجبر ما انكسر في حياتي.. أيّة ظروف منعتك من ان تطفئ نار قلبي المشتعلة منذ عشرين عاماً.. انظر (تشير الى خطوط السنوات التي خطتها على الحائط) تلك خطوط أيّامي الداكنة، هل رأيتها، كنت أعدّ اللحظات، لحظة تلو أخرى، أحصي الأيام والليالي، ذرفت دموعاً من نار، وتأتيني لتقول لي الظروف.. أيّة ظروف هذه التي تنسيك بيتك الذي حبوت ومشيت فيه، أيّ قلب تحمله، وأنت ترسل لي ما يشعرني بالذل والإهانة..

الابن: انسِ يا أمي، وتعالي معي ستعيشين عزيزة كريمة..

نخلة: العز ذهب مع أهله.. أتريدني ان أترك أنفاس أحبتي في هذه الدار، أترك النخلة التي زرعناها، وشهدت كلّ لحظات انتظاري.. (بسخرية) إسمع سعادة الوزير، أنا مزروعة في هذه الدار التي تخجل من العيش فيها..

الابن: أمّي لقد تغيرت الحياة، وما مضى لن يعود..

نخلة: لكنني احتفظ به في صدري، هنا (تشير الى صدرها) لقد اخطأت العنوان سعادة الوزير، عد من حيث أتيت، نخلة باقية في دارها بانتظار ابنها الغائب..

الابن: ستأتين معي..

نخلة: هل ستجبرني على ذلك…؟ آه صحيح، نسيت إنك صرت سلطة..

الابن: (بصوت عالٍ) قلت لك كل شيء قد تغيّر..

نخلة: الا السلطة هي ذاتها لن تتغيّر..

الابن: الا ترغبين في رؤية نخلة الصغيرة، حفيدتك…؟

نخلة: (تنهار باكية)

الابن: (مكملا) تعرف عنك كل شيء، تحمل ملامحك، وضحكتك..

نخلة: لا تستغل ضعفي، دعني ألفظ آخر أنفاسي في هذه الدار..

الابن: (يعيد نظارته الى موضعها) حسناً يا أمّي، سأعود ومعي نخلة الصغيرة، ربما تستطيع أن تقنعك..

نخلة: قبل أن تذهب، خذ معك هذا.. (تتقدم نحو حقيبة وتقدمها له)

الابن: ما هذه…؟

نخلة: المال الذي كنت ترسله لي في السنوات السابقة، حفظته لك، كله في الحقيبة، خذها وخلّصني من سنوات الذل..

الابن: وأقول من أين جاء العناد لنخلة الصغيرة (يشير الى الرجل/1 الذي يقوم بأخذ الحقيبة)

الابن: سأعود يا أمي..

نخلة: إن كنت تفكر في العودة ثانية، عد ابناً لي وليس مسؤولاً، منذ أن انتزعت السلطة زوجي وابني كرهتها..

(الابن يخرج ويتبعه رجال الحماية)

نخلة: (تبقى لوحدها، تذهب الى الحائط وتؤشر يوما جديدا)

(اظـــلام) 

ستار

                             البصرة في 12/1/2016

Share: