من فرهد العراق؟ مدخل تفكيكي لقراءة زمن الفرهود!

ها نحن ندخل دون استئذان زمناً لم تحدده خريطة التأريخين الهجري والميلادي، ولا نعرف بالضبط هل هناك ثمة مثيل لما رأيناه وما سنكشفه في أزمنة العرب الماضية او الحاضرة، وأزمنة الأعاجم (من غير العرب) المتأخرة والمتقدمة وما بينهما.. كل ما في الأمر اننا ولجنا من حيث لا ندري بعدما شاهدنا تاريخاً كبيراً يتجول في دول العالم.. ما تركه أجدادنا (إن كانوا فعلاً أجدادنا) من رقم طينية ومن قطع تالفة من رقائق وخزف نراه في متاحف دول العالم، يتزينون بإكسسوارات أمجادنا، وبقايا قوتنا، وفتات زهونا كما تتبجح (القرعة) بشعر أختها رغم ان أولئك الأعاجم من ذوي المتاحف المعروفة لم يكونوا ولن يكونوا أبداً أخوة لنا!.. نرجع الى موضوعنا، الشائك، الضائع ضياع مؤرخينا وهم يخوضون في أزمنة لم يستطيعوا ان ينتشلوا منها سوى دراما الدمار والقتل بدءاً من السبي البابلي، وحملة التتار وهولاكو الى حرب الخليج الثانية ومن ثم الحرب الدفينة الثالثة التي لم يستنطقها المؤرخون بعد.. المهم، يقول بعض المؤرخين ان هناك فرهوداً يحصل بين كل ثورتين، او نائبتين، او كارثتين، او احتلالين او سميها ما شئت شرط ان تعرف –عزيزي القارئ- انها ترسم صورة حقيقة لأزمنة ما زالت تعشعش بنا.. لا ندري في فرهود ما بعد الحرب العالمية الأولى واحتلال الإنكليز بلدنا من فرهد من.. كما لا ندري في فرهود الحرب الكونية الثانية من فرهد من.. لكننا ندري ان هناك أسماء خرجت تحمل تلك الكارثة الأخلاقية..

  • شبر في وطن:

قال صاحبي الذي تجاوز عقده الرابع قبل خمس سنين: ان جدي اسمه فرهود، ولا ادري كيف جاء هذا الإسم لعائلتنا رغم اننا لم نفرهد ابداً!

– كيف تيقنت انكم لم تفرهدوا ابداً؟

-لأن العرق دساس واذا كان جدي قد فرهد في السابق فهذا يمكن ان ينسحب لأبنائه ولأنهم لم يفرهدوا فذاك أمر يستدعي التوقف عند حقيقة اسم 0فرهود) الداخل لعائلتنا.. ربما سمّوه اعتزازاً بجار لهم او قريب!!

اعتزازاً، قالها واثقاً، وهو يلوك باء (قريب) في اللحظة التي قرأت فيها جملة كتبها احدهم بالطباشير على الحائط القريب منا (حواسم للبيع)!

من المضحك المبكي ان ننظر الى أنفسنا بزهو ونحن نتصفح كتب التأريخ والجغرافيا ونتأمل أجدادنا وهم يخوضون حروباً كبيراً (دوّخت) العالم.. لكننا لم نر أنفسنا ونحن نقتحم مدرسة الأولاد والبنات (محوسمين) المكيفات، والرحلات، والسبورات،و..و..و..! حدث هذا مرتين في أواخر القرن الماضي وفي أوائل القرن الجديد.. أي اننا ودعنا قرناً بالفرهود واستقبلنا آخراً بالفرهود أيضاً وما كنا نعلم اننا سندع أطفالنا يفترشون أرضية الصف لأن آباءهم وأخوانهم قد حوسموا الرحلات!!

ومثل كل شيء يبدا صغيراً وينتهي كبيراًن فأن الفرهود بدأ هكذا، ثم انتفخ، وانتفخ، حتى صار ما يعرف بـ(الحواسم).. والحواسم تلك ليست مثل الفرهود، رغم انها امتداد طبيعي له، لكن في الفرهود لا يمكن ان نعذر احد الا في حالات الجوع القصوى واذا كان الفرهود طعاماً اما للحاجات الكمالية فلا يمكن ان نعذر من قام بالفعل الفرهودي، ولكن في الحواسم يمكن ان نعذر كثيرين خاصة في حواسم الدور، لأن الذين هجروا في سنوات سابقة وعادوا بخفي حنين لا بد ان يكون لهم سكناً في بلدهم الذي قدموا له الكثير الكثير ومن الواجب والحق ان يعيد لهم الوطن اعتزازهم به وثقتهم بانفسهم لهذا فحين لم يجدوا وطناً يفتح لهم ذراعيه فقد (حوسموا) على الطريقة العراقية وهذا حق لهم واستشهد بمثل قاله صديق لي (حوسم) مساحة مائتي متر من ارض العراق: الكاع كاع الله! حقاً ان الأرض لله وقد استخلف فيها ابن آدم فلا يمكن ان يعيش المرء بلا ارض وهذا ما حصل فعلاً وعلى المسؤولين ان يردوا الاعتبار لتلك العوائل ويمنحونهم  ما رزق الله العراق من ارض شاسعة لم يهبها لقوم آخرين.. واذا كان الناس الذين استحقوا ان يصنعوا لإقدامهم موطئاً معذورين في فعلهم فهل نعذر من (حوسم) أرضاً وبنى عليها محال تجارية وأجرها بمبالغ كبيرة؟ هذا الأمر متروك لذوي الشأن لأننا ما عدنا نعرف أين الصح وأين الخطأ في زمن توقفت فيه بوصلة الفضيلة. هنا نستطيع ان نضع خطاً فاصلاً بين فعلين الأول يمكن تبريره والآخر لا يمكن وضع أي تبرير له خاصة وأن ذلك يدخل ضمن ثيمة الحلال والحرام وما الى ذلك من أمور شرعية يمكن ان يدلو بها ذوو الإختصاص..

والمهم في ذلك كله اننا ننزه العراقيين، نعم ننزههم، فهم ولظروفهم الخاصة قد أسسوا مجتمعهم على قيم كبيرة لا يمكن ان تجد مثيلاً لها في كثير من دول المعمورة.. قيم عظيمة رأيناها عند أبناء العشائر في الريف والمدينة، فهم لا يتصرفون (سابقاً) وفقاً لساليب الخوف والتنكيل انما تصرفهم نابع عن فهم بمسؤوليتهم تجاه بلدهم ولا أدل على ذلك أنهم دخلوا حروباً كثيرة بأزمنة طوال دون أن يكون لهم شبر في الأرض.. فكيف يمكن لعراقي أن يعيش بلا ارض فقديماً قالوا: (من لا أرض له لا قبر له!).. وقد يقول قائل انك تبرر للحواسميين فعلهم وبهذا ستزيد (الطين بلة) وسيزداد عددهم ان رأوا الإعلام يقف الى جانب ما اخطأوا بحقه، فنجيبهم: أخطأوا بحق من؟ الوطن…؟ وما أدراك ما الوطن!

  • سحّارة من القرن الخامس عشر ق.م:

لم اصدق ما سمعته من احدهم وهو يذكر لي قيمة قطعة خزف قد لا تكلف نفسك رفعها عن الأرض ان أنت وجدتها.. فرقم خيالي كالذي ذكره جعلني انحني لألتقط كل قطعة متهرئة او بالية ظناً مني أنها قطعة أثرية.. كان لجدتي (سحّارة) وهي عبارة عن صندوق من الخشب الجاوي القديم جداً والمزينة بقطع صغيرة من الفضة، تضع فيها أسمالها، وبعض الأشياء التي تذكرها بأيام (عرسها) ان ضاقت بها الأيام.. ولم تترك تلك الجدة بعد موتها الا تلك (السحّارة) والتي صارت تتنقل بين بيت وآخر حتى استقر بها الحال خلال أزمة الحصار في محل بيع العتيق (وهي محلات تشتري وتبيع السلع القديمة)، ولا ندري الآن هل تفرهدت (سحّارة) جدتنا وصدّرت الى متحف اللوفر او تلك المتاحف الأوربية التي (تفتح أربع ويلات) لآثار العراق.. ولعمري أنهم الآن يضعونها في أكثر الأمكنة سياحة بعد إن كتبوا عليها (القرن الخامس عشر قبل الميلاد)!  

تعج المتاحف بآثار عراقية، من مختلف العصور، المتأخرة والمتقدمة، قبل وبعد الميلاد.. كلها آثار تدل على عظمة ذاك الإنسان الذي أيّده الله ليؤسس دولة كبيرة تمتد على مساحة كبيرة من هذه الكرة التي اكتشفنا انها أرضية في بدايات القرن الحادي والعشرين وتأكدنا من ذلك من خلال عودة زمن الإحتلال البريطاني للبصرة، فالنقطة التي بدأ منها (الكركة) عادت اليها قوات الكنغر والفأرة وما الى ذلك من تسميات يحلو لقوات الإحتلال أن تسمي نفسها لهذا فأننا على يقين ان الكرة الأرضية مدورة!..

تلك المتاحف ما كانت لتكون لولا آثار بابل وآشور وأكد وسومر وآثار بلاد وادي النيل أيضاً.. تلك النفائس التي تدل على حضارة ليتنا نصل اليها اليوم، وأخلاق ليتنا نتصف بها اليوم، وتصرفات ليتنا نعمل بها اليوم.. وصدق ليتنا نتحلى به اليوم، ونكران ذات غاب عنا بعدما مُلئت البطون بمال سحت حرام!

صار فرهود الآثار حرفة، ومهنة، تدر بالمال الوفير، وبالغنى الفاحش دون ان تخسر شيئاً!! وما عليك الا أن تحمل فأساً ومجرفة وتذهب الى أي مرتفع او تل في منطقة اثرية في بابل او البصرة أو الموصل او الناصرية وتحفر هنا وهناك ستجد ان التأريخ كله سيدخل في جيبك! وانتعشت تجارة فرهدة الآثار العراقية بعد سقوط النظام السابق حيث حصل احتلالين: الأول خارجي من خلال القوات الأميركية والبريطانية لاحتلال العراق والثاني داخل من خلال القوات الفرهودية لاحتلال المتحف الوطني العراقي، وهكذا قطعت أوصال الثور المجنح ولم يعطوه فرصة للطيران، وكسّرت الأمكنة المزججة وانتشرت رائحة قرون مضت في ذاك المكان الخانق الذي لم يتركه تجار الفرهود المخضرمين الا حطاماً.. ومن الطريقة التي (تفرهدت) فيها آثار المتحف العراقي نستنتج على ان القائمين على الفعل الدنئ ذاك هم من العارفين وذوي الخبرة وهذا ما أكدته جميع وسائل الإعلام والمسؤولين عن المتحف الذين أشاروا الى ان طريقة قطع الآثار الكبيرة والتي تحتاج الى دراسة قد قطعت بطريقة تثير الريبة والشك في أن الذين قاموا بذلك هم من ذوي الخبرة وربما يساعدهم تجار دوليون انتهزوها فرصة للانقضاض على ما بقي من العراق.. لا نريد ان نتهم أحداً، فجميعنا متهمون بعدم الحفاظ على تراث العراق!

  • آخر وقفة:

الآن، وبعد ان هدأت النفوس وطابت، وتهدلت الكروش، وانتفخت الجيوب، واختلط حلالنا بحرامنا، وما عاد أمامنا من شيء (نحوسمه) او (نفرهده)، علينا أن نصحو من غفلة الدهر ونتذكر ان لنا وطناً جريحاً زدناه أذى، وملأنا صدره قيحاً، وتركناه يلعق جراحه مثل طير ذبيح، علينا ان نضع الله بين عيوننا، وان نشغّل آلية ضمائرنا التي توقفت بفعل صدمة الوضع المزري الذي عاشه العراق، وأن نقول لأنفسنا ولوطننا: لقد آذيناك كثيراً وتركناك وحيداً فلم ننصرك يوم دارت عليك الذئاب ولم نصبرك يوم مُلئنا يأساً، ولم نعذرك يوم انكسر ظهرك وقلّت حيلتك.. علينا ان نضع يداً بيد لنبني حضارة أولئك الناس الذين تفرهد ما تركوه لنا من رقم طينية تحمل حضارة كانت تسمى حضارة وادي الرافدين او الحضارة الرافدينية.. لنسأل أنفسنا قبل ان نسأل غيرنا: (من فرهد العراق؟) ألسنا أول من اقتحم الدوائر والمدارس ورياض الأطفال ودور العجزة وتركنا الأولاد يجلسون على الأرض؟ اذا اعترفنا بصدق النية اننا فعلنا ذلك ربما سيعذرنا الوطن الذي لا نمتلك فيه شبراً واحداً عندها سننام قريري العيون..

جريدة المنارة 2006

Share: