عائلة كبيرة.. عائلة صغيرة ورجال مشرّدون

· قاع مدينة:

قد يستوقفك مشهدٌ لم تكن تنتظرهُ في يوم حافل كيومك، رجلٌ مسنٌّ ينام في زاويةٍ من زقاقٍ قديم بين أكوام القمامة، وسواء تألمت أو لم تتألم لذلك المشهد فانكَ لن تغيّر في الأمرِ شيئاً!..سيبقى على حاله تترصدهُ عيون الناس دون أن يسأل أحد عن أسباب تركه هكذا مثل علبةٍ فارغة. هو هكذا منذ عدة أشهر، وربما منذ سنوات حين قذفت به الحياة لأسباب عديدة الى هذا الركن المهمل من المدينة.. لا تضحك رجاءً وأنت تنظر له فقد يأتي اليوم الذي ستجد فيه نفسك مهملاً الى جانبهِ!!.
هناك قصص لا تخطر على بال، مؤلمة ومثيرة في نفس الوقت، تصلح أن تكونَ عملاً دراميّاً، لا تحتاج عندها الى مزيد من التفاصيل، يكفي ان تدير عدسة كاميرتك وتوجهها حيث المكان القذر لتبدأ بـ (zoom in) حتى تصل الى لقطة قريبة، وأخرى قريبة جداً (كلوز)، هذه الصورة كافية لأن تجعلك تتأمّل تلك الملامح التي قسى عليها الإنسان قريبا كان أو غريباً.. إبناً أو أخاً أو زوجة!!.. هنا تبدأ ترسم في مخيلتك أول خيوط الحكاية، حسناً، ارسمها كما شئت شرط أن تضع في الحسبان أن أمامك- الآن- وقد ملأ الشاشة إنسان، هو مثلك بالضبط، يمتلك ما تمتلكه من مشاعر إنسانية رغم أنه قد عطّلها بشكل مؤقت لا لشيء الا لكي يتوافق والمكان الذي هو فيه. أية حكاية تلك التي تسع المشهد، قد تتذكر أباً لك، أو شخصاً عزيزاً آخراً، وربما نزلت منك دمعة دون إرادة منك.. ولو كل امرئ شعر بما تشعر فيه أنت الآن لما وجدت أولئك المسنين وهم يفترشون الأرصفة والساحات العامة.. هنا استذكر صورة رسمها فنان تشكيلي لا أدري ما اسمه لكنها صورة معروفة تجدها في أغلب مقاهي المدينة، ذلك الشيخ الذي يجلس على رمل شاطئ بحر عاصف وأمامه إبريق الشاي وحطب تأكله النار.. هذه الصورة للشيخ المشرّد استوقفتني كثيراً رغم أن المواصفات الفنية لا تنطبق عليها، فهي صورة عادية، لكن غير العادي فيها تلك النظرة الشاردة، بالضبط مثل صورة أخرى ولشخصية مشابهة وهو يجلس في مقهى، هذه أثارت فينا بعض الإحساس بان على الإنسان أن لا ينسى ذات يوم أن هناك من يشاركه في الإنسانية.
كان هدفنا أولاً أن نقف عند تلك الأسباب التي جعلت من هؤلاء مشرّدين، لكننا وقبل ان نتقصّى قصصهم المأساوية فقد تصفّحنا وجوههم المتعبة، وللآن ترن في الأذن كلمة سمعتها من أحدهم وهو يقول: (خلاص، ما بقى من العمر شيء!!)، إذن هناك يأسٌ يُضاف الى ذلك الألم المرير.. لا أدري لماذا أجدني أسيراً لمثل هكذا حالات، انظر لها بأحاسيس إنسان يحملُ في رأسه فكرة أن تكون الحرية والمساواة والعدل للجميع. مَنْ الجاني على هؤلاء: العائلة الصغيرة أم الكبيرة؟!.. بالتأكيد أن العائلة الصغيرة لها أسبابها، وهي أسباب كثيرة ترتبط ارتباطاً كبيراً بما تيسّره لها العائلة الكبيرة، الوطن، ومالكوه!!.. أقول قولي هذا وأشير الى تلك الفترة الحرجة من حياة الإنسان العراقي حين كان الوطن ملكاً صرفاً لصدام وابنيه (على فكرة هناك ممن يطبّق وبعنف-الأقربون أولى بالمعروف- حتى غدت أول وزارة عراقية بعد السقوط مرتبطة ارتباطاً عنيفاً بأعضاء مجلس الحكم ارتباط الخال وابن أخته، ومنه نزولاً الى المنظمات المهنية بعدما صار الرئيس يختار عصبة من أولاده ليعينونه على أمر الرعيّة مخابراتيّاً!!).
في الفنادق تجد كثيرين من أولئك المسنّين، في كل مدن العراق، أولئك الذين احتفظوا بشيء من قوّتهم لكي تعينهم على سد إيجار الفندق بعد ان طردوا من بيوتهم! قد يصمد هؤلاء سنة أخرى أو سنتين ولكن في آخر المطاف سيُجْبَرون على ترك غرفهم النتنة في الفنادق الرخيصة ليتخذوا ركنا منعزلاً من المدينة مستقراً لهم.
يقول المثل الخليجي (أحر ما عندي أبرد ما عندهم !) ويقابله المثل العراقي ( اللّي إيده بالنار مو مثل الإيده بالثلج !) ولا أدري هل استطعت ان اذكر المثل بصورته الصحيحة أم أخطأت بالتعبير لكنه في النتيجة يأخذ المعنى ذاته، فقديماً قال الشاعر العربي في عجز بيته الشعري (لا يؤلمُ الجرح إلاّ من به ألم)، لهذا فلا تظن سيدي القارئ أننا نكتب موضوعنا هذا بروحٍ وأعصاب باردة، لقد تفاعلنا معه بكل ما يحمله من هموم ومآسي ولكي لا نقلب هذا الموضوع الى فيلم هندي فأننا سوف ندخله من صلبه وليعذرنا الجميع في أننا لا نستطيع ذكر أسماء من إستطعنا الحديث معهم ذلك لضرورات اجتماعية بحتة ولكي لا يزعل علينا (الأبناء) الجناة!!.
أننا في هذا الاستطلاع نضع صورتين هما خلاصة لصور متعددة منتشرة في أصقاع عراقنا العزيز الكريم، ولكي نقرّب هاتين الصورتين استخدمنا اسلوباً قصصيّاً عسى ان تدخل الرحمة في قلب من في قلبه مرضٌ! 

· قالوا عني مجنوناً:

بعد إن وضع عصاه جانباً، وارتشف من استكان الشاي ما يكفي لتذوّق طعم السكّر، راح يحدّث نفسه بكلمات لم استطع التقاط مفردة منها رغم أنه لا يفصله عني سوى أريكة فارغة، لكنني استطعت ان أحدد حركات يديه واشارته، فكأنني به وهو يؤنّب نفسه.. ولأني أعرفه منذ اشهر يجلس في مكانه المعتاد في احدى مقاهي المدينة، استرسلته بالكلام وسألته:
– كيف حالك يا عم؟!
ابتسم ساخراً، وراح يحتسي ما بقي من الشاي، حاولت معه ثانيةً، وقلت مع نفسي لأدخل معه من حيث عواطفه فقد يجيبني حينما يشعر أنني أتضامن معه (ليس على طريقة تضامن المتناقضين في زمن الشتات العراقي)، قلت له:
– الفندق الذي تسكنه حار جداً..
رمقني بنظرة وأحسست عندها أنني بدأت أقترب منه. قلت:
– منذ متى وأنت تسكن الفندق؟
– من زمان.. قالها دون أن يلتفت لي ثم أردف قائلاً:
– بس يا عمي الفندق ما ينراد!
– لماذا؟
الجماعة!!
– ما بهم؟
– يسخرون مني دائماً، لأني إنسان فقير، يقولون عني مجنون!
– ولكنك ليس كذلك، أنت اعقل منهم.
شعر بالارتياح وهو يستمع لي حيث وجد شخصاً يصدق انه لم يكن مجنوناً.. قال:
– هل تدري بأني صدّقتهم إذ يقولون عني ذلك؟
– هلاّ أخبرتني بقصتك؟
رجلٌ عمره تجاوز الستين، لم يتزوّج أبداً، فقد كان يعيل إخوة له، وعندما شبّوا واستدت سواعدهم اجبروه على مغادرة الدار!!.
كثيرون مثل (أخوة يوسف) تنكّروا للجميل في غياب الرأفة والرحمة، وعندما تسأل احدهم عن تلك الفعلة التي لا يرضاها الله سيمطرونك بوابل من الحجج والأعذار الواهية لكنها بالتأكيد لم تكن الحقيقة.
هل يمكن ان تصل بنا الحالة الى هذا الحد؟ أن نجني على آبائنا وأخوتنا الذين يكبروننا سناً ونلقي بهم في الشارع كمن يلقي أسماله؟
رجلٌ آخر اصغر من رجلنا الأول سناً قال:
– لي ولدان، ربيتهما، وكبّرتهما، لكنهما بدءا يسرقانني، فانا أعمل بالأجر اليومي ولي ما يكفيني، ولهذا غادرت البيت بإرادتي.
– ألم تتحدث معهما؟
– لقد كادا يقتلانني!
– هذا يعني انك لم تغادر البيت بإرادتك بل بضغط منهما، والآن هل تخبرني كيف أرادا
قتلك؟
وراح يسرد لي قصته معهما، واحدة من القصص المأساوية، وفانتازيا لم اقرأ مثلها حتى في كتابات الشاعر القاص (ادغار ألن بو)!
قال لي:
– جرّداني من كل شيء وخرجت بثوبي هذا.
أشار الى القطع البالية التي يرتديها، وأكمل قصّته:
– كان الليل يمرُّ عليَّ طويلاً، بطيئاً، وفي كل لحظة كنت أشعر انهما سينقضّان عليَّ.. من أين تجيء لي القوّة لأردَّ شرّهما، فقد كانت الكوابيس تطاردني، لهذا قررت الهروب من بيتي دون ان أفكّر بالعودة اليه ثانيةً.

· دور رعاية المسنين:

ألم يحن الوقت لنفكّر من جديد وبجديّة بإعادة العمل في دور رعاية المسنين بعد هذا الطوفان الذي حلّ بمجتمعنا؟
فمن حق هؤلاء على الدولة أن يجدوا الرعاية الكاملة، رعاية في جميع الخدمات خاصة ونحن نبدأ عصر جديد يكون الإنسان فيه قيمة عليا.. ولا خير في مجتمع يهمل مُسنِّيه، فهم كانوا يوماً ما مفصلاً حيوياً فيه، ولكي لا أطيل، فقد كانت تربطني برجلٍ مسنٍّ علاقة اجتماعية ولمضايقات النظام السابق له ولأفراد عائلته تمكن من السفر الى احدى البلدان الأوربية ومن هناك بعث لي برسالة (ولا ادري كيف خرجت بأمان من بين أيدي رقابة الرسائل حيث كانت جميع الرسائل الواردة الى العراق تُفتح من قبل لجان إستخباراتية خاصة ومن ثم تقرر هذه اللجان، اتلافها أو وضعها في صندوق المرسل اليه بعد ان تختم بالختم المعروف والذي يذكر فيه أن الرسالة وردت بهذه الحالة ممزقة!!)، قال لي هذا الرجل الصديق أن ذلك البلد الذي حلَّ عليه ضيفاً (ويعني لاجئاً) قد قام برعايته بصورة لا يصدّقها العقل حيث أُنْزِلَ في دار رعاية المسنين وتلقى فيها مختلف الخدمات الإنسانية وأولها الخدمات الصحيّة، وهناك خدمات أخرى ترفيهية اسبوعيّة حيث تقوم الدار باصطحاب المسنين في سفرات منظّمة الى المناطق السياحيّة، ويستغرب هذا الرجل الصديق في ان الناس هناك لم يتدخّلوا في أشيائه الخصوصية ومنها ممارسة طقوسه الدينيّة.. وقال مستغرباً: (أن الحكومة هنا تحمينا ونحن نؤدي هذه الطقوس ولا تزجّنا في السجون!) في إشارة لما وقع له قبل سنوات خلت وهو يُحيي ذكرى عاشوراء حينما اقتيد ومن معه الى الحجز!.
هذا الرجل الصديق شاهدتهُ بعد سقوط النظام بشهر تقريباً وقد عاد الى ربوع وطنه، فرحاً بالحياة الجديدة، وأوّل ما قاله لي: (أنّ عمراً جديداً كُتِبَ لي بعودتي الى وطني العراق).

· ساحات ومشرّدون:

لا تستغرب اذا ما وجدتَ أحداً وقد غفا تحت برميل نفايات، أو استظلَّ بشجرة في حديقة عامة في ظهيرة لاهبة من صيفٍ محموم في الوقت الذي ينعم كثيرون في البيوت ببرودة أجهزة التبريد (هذا اذا كانت هناك كهرباء)، فهذه الصورة طبيعية جداً في مجتمع ضاق الأمرين، حصار اقتصادي مجحف ونظام سياسي متخبط في الأخطاء.
نحن نتمنى ان لا نرى تلك المشاهد المأساوية ثانيةً وان تأخذ الحكومة (من السابقين أو اللاحقين) هذا الأمر بجدية وان تضع الحلول المناسبة وهي ليست بالصعبة ولا تحتاج الى عصا سحرية خاصة اذا فكّر الآخر/ المسؤول برعيته كما يفكر بابنه أو أبيه أو أخيه، وان يُعاد العمل بالمؤسسات الاجتماعية ودور الرعاية ويصار الى جرد أولئك المساكين من أجل شمولهم براتب الرعاية الاجتماعية إسوة بأولاد الخال والعم والجار القريب والبعيد، وأن تبادر الدولة بنفسها لتحمّل هذه المسؤولية ولا تنتظر جمعية إنسانية (على فكرة هناك جمعية أجنبية تعمل في العراق واسمها ناس في حاجة وهذا الاسم نعتقد نحن من طرفنا أنه لا يليق جداً بأبناء العراق الغني).. هذا هو الحل لردم تلك الهاوية، وهي دعوة صادقة للضمان الاجتماعي بأن يضمنوا حقوق أولئك النائمين في الأرصفة لكي لا نرى تلك الصور التي تذكّرنا بقبائل الزولو، كما لا ننسى أن نذكّر الأبناء بأن الآباء أمانة في أعناقهم وهم قومٌ راحلون سواء رضينا او أبينا وعلينا ان نجعلهم فخورين بنا رغم أن رعايتهم هو واجب إنساني وأخلاقي فهل نتّعظ قبل الطوفان؟ 

الحوار المتمدن-العدد: 1402 – 2005 / 12 / 17

Share: