المعلم العراقي المخذول لم يعد مخذولاً

· مدخل:

قالوا قديماً (مَنْ علّمني حرفاً ملكني عبداً) وما بين التعلّم والتملّك برزخاً من الجهد والمثابرة، فما من امرئٍ ما حنَّ يوماً لأيام طفولته، أو ما زال يسمع جرس مدرسته إذ يعلن عن بدء الدرس، تلك الأيام الرائعة بأصدقائها وكتبها ودفاترها وشقاوتها وشخابيط الأنامل الترفة على السبورات السوداء، حياة انزلقت منا وغاب معظم ملامحها، فذاك باب المدرسة الكبير، والساحة الرمليّة، والصفوف المتلاصقة بأسمائها (الصف الأول، الثاني ، الثالث،……..) ومدرسيها العطوفين منهم والقساة!!، وللآن أتذكّر جدّي حين أتيته مبتّلاً بدموعي بعد صفعةٍ قوية تلقيتها من معلم (الحساب) وهو يقول لي: (إبني، اتبع الذي يبكيك ولا تتبع الذي يضحكك!) فمن يومها صرت والبكاء صديقين عسى أن ألتقي في يوم ما بما يضحكني!
والمعلم في حياتنا جميعاً هو الأب الثاني الذي يحرص كل الحرص على تربيتنا، وهو المعلم المربي قبل أن يكون شيئا ًآخر. قبل أكثر من سنتين التقيت بمدرس مادة (العربية) الذي كان يدرّسنا في الصف السادس الابتدائي، وعرّفته بنفسي وأهديت له نسخة من كتابي الشعري فقال لي بابتسامة لم انسها أبداً: (الآن تيقنت أن تعبي لم يذهب سدى)، كان الفرحة المرسومة على وجهه المتعب أكبر من أن أصوّرها بكلمات لا تؤدي.. هكذا هم معلمو الأمس، فأين منهم معلمو اليوم؟
في رواية ان نابليون بونابرت وهو في قمة سلطته ونشوة انتصاراته أمر موكبه أن يقف كي يعبر معلمه وفاءً منه، نقول هذا ونحن نتذكر سنوات الحصار الرهيبة تلك التي وضعت المعلم في العربة الأخيرة من قطار المجتمع.. وقد حاولت المؤسسة (التعليمية) وبأوامر من أعلى السلطات أن تجعل المعلّم مجرّد خرقة بالية في المجتمع!!

· من صور الأمس القريب:

كيف نستطيع نقل صورة من الأمس القريب بكل ما تحمله من تقاطيع وزوايا ومساحات للظل والضوء، تلك التي تُظهر المعلم وهو يطوف في الشوارع والأزقة بائعاً للسجائر، أو يجلس في مفترقات الطرق تحت سياط الشمس واضعاً (جمبره)- بالجيم الأعجمية- أمامه منتظراً سائقاً أو عابراً يشتري منه علبة كبريت أو سجائر، هذه الصورة صارت مشاعة في بلد انتصر للظلم وغيّب أبنائه! وجوه كالحة بفعل العوز وأجساد واهنة وعيون تنظر بعتب شديد الى مجتمع سلبت إرادته.
قبل أعوام وفي اجتماع لمجلس الآباء والمعلمين، سمعت أباً يقول لرئيس المجلس شاكياً أن المعلم يأكل (لفة) طعام ابنه وهكذا يعود الولد الى البيت (ميّت من الجوع!!).
هذا هو حال المعلم في سنوات القهر، والقصص كثيرة نحاول في هذا التحقيق ان نعطي صورة واضحة لما كان عليه وما نرغب أن يكون فيه.. ورغم ما عاناه المعلمون الا ان كثيرين منهم قد استمروا في دوامهم ليعلّموا الأجيال وليرسموا مستقبلاً مشرقاً لأبنائنا، وكان عملهم هذا تحدياً لسلطة البطش والتجهيل وموقفاً يسجّله لهم التاريخ في صفحاته المشرقة.
قد يستغرب القارئ العربي وهو يستمع لحديثنا أو يقرأه، ونحن نعذر من لم يعرف ما وصل اليه التعليم في العراق، وقد يساوره الشك في ما نذكره وعذره أنه كان يقرأ في صحف النظام وإعلامه ما يُجمِّل صورة المعلم والتعليم.. ويحسّن تلك السياسة العرجاء التي حطّت من قدر المعلّم والمربي، وهو إعلام حاول بعض الأخوة العراقيين في الخارج تعريته وكشف زيفه في سنوات كنا نتلظى فيها ويموت كثيرون منا بلا ذنب أو جريرة..
قيل أن العراق هو الذي علّم الإنسانيّة الحضارة، وعلّمها الكتابة، فقد كنا نرى صور المسلاّت التي خطّ فيها بكتابة مسمارية تاريخ حضارة عريقة، ورأينا صوراً لأختام اسطوانيّة (من تلك التي تباع الآن في بعض البلدان العربية والأوربية بفضل فرهود المتحف الوطني العراقي!!)، هذا التاريخ الذي سطّره العراقيّون حريٌّ به ان ينتفض وهو يرى صورة العراقي/المعلّم وقد وضعت في مكانٍ لا يليق بها.. ولأن الكتابة في العراق قد بدأت مسمارية فذلك ما جعل النظام السابق أن تنتهي كتابات أبنائنا مسمارية أيضاً وللتأكّد من ذلك تكفينا نظرة واحدة لدفاتر أبنائنا ليس الذين في التعليم الأساس أنما ممن هم في التعليم الثانوي أو حتى الجامعي.
جلس بجانبي وهو يتصفّح جريدة، يقلّبها من صفحتها الأخيرة الى الأولى: (هكذا تقولبنا أن نسير عكس الاتجاه حتى في قراءتنا للصحف!!) قالها ضاحكاً، معلمٌ تخرجت على يديه أجيال كثيرة، منهم من صار استاذاً جامعياً، أو طبيباً، ومنهم مَنْ أكلته الحروب وغدا تراباً وآخرون تاهوا وسط تيار البحث عن لقمة عيشٍ.. هذا المعلم قبل عامين ما كنت أظنّه يستطيع شراء صحيفة لأن راتبه لا يكفي لذلك، لكنّهُ الآن يجلسُ وقد استعادَ عافيته وهو أمرٌ يدعو للارتياح لما يشكّلهُ المعلم من أهميّة قصوى لبناء جيل قادر على تحمّل المسؤوليّة، ولكن مثلما استعاد المعلّمُ (عافيتهُ) هل يجيء اليوم الذي يستعيد فيه هيبتهُ؟!
سؤالٌ طرحته على المعلم الذي يجلس بجانبي فقال:
– من الطبيعي أن يستعيد المعلّم تلك الهيبة التي فقدها بفعل الظروف التي يعرفها الجميع لأن مركزه الاجتماعي يؤهّلهُ لذلك خاصة وان هناك كثير من العوائل ما زالت تنظر الى المعلّم باحترام رغم ما أراده النظام السابق ان يكون عليه المعلّم.
· كيف تفسّر لنا الحال الذي وصل اليه المعلم أبان السنوات المظلمة الماضية؟
– ما جرى على المعلّم جرى على جميع شرائح المجتمع المغلوب على أمرها، لكن لطبيعة مسؤولية المعلم في المجتمع، فقد سبب الإجحاف بحقه ضرراً بالمجتمع ونتج عن ذلك ظهور جيل أو أكثر ليس لديه شعور بالمسؤولية، وبصراحة أقولها (جيل أُمِّيْ!)، وقد حاول النظام كثيراً الانتقاص من المعلّم وتنزيله من عرشه التليد الى أسفل سافلين!!.. خُذْ مثلاً المعلّمين الذين يدرّسون في الأرياف والمناطق البعيدة (الأقضية والنواحي) صدر الأمر بأن تُجْمَعْ مبالغ من الطلبة لإعانة المعلّمين فكيف تريد طالباً يحترم معلّمه وهو بهذه الصورة؟ واخبرني زميل لي يُدَرِّسُ في مدرسة في الفاو أن الأهالي يجلبون لهم الطعام وهو وعدد من زملائه المعلّمين ينامون في المدرسة!أن ما تفعله العوائل لهو عملٌ إنساني وكرم عراقي أصيل لا يمكن أن ننكره، لكن كيف تقنع طالباً يأتي بالخبز والشاي لمعلّمه من بيته أن يكون محط تقدير لهم دون أن تنحرف صورته في ذهنه؟!
· كيف نستطيع أن نحقق نجاحاً ملموساً في إعادة الدور التربوي للمعلّم؟
– على المؤسسة التعليمية والتربويّة أن تبادر بدراسة المنهج الدراسي بدءاً من مرحلة الأساس إن لم نقل رياض الأطفال حتى الجامعة وأن يشارك في ذلك خبراء تربويّون ونفسانيّون وفق صيغ علميّة تأخذ في نظر الاعتبار الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه التلميذ ومقارنته بالمنهج التعليمي وان يصار الى استحداث دروس أخرى غير تقليديّة في الفنون الجميلة والبيئة وحقوق الإنسان لكي نخرج بجيل متكامل وعلى معرفة بكل الأمور الحياتيّة، كما لا بد أن تتوفّر في المدارس كافة مكتبات تضم مختلف الكتب بالإضافة الى مكتبة (فيديويّة) للعروض التعليمية والثقافية لنؤهّل الطلبة لممارسة دورهم المستقبلي في الحياة الرحبة، هكذا نستطيع أن نضع المعلم في مكانه المناسب ونعمل بضمير مرتاح ولا ننسى تقنيات العالم الحديثة في الحاسبات والانترنت فما بينها وبيننا برزخ كبير علينا اللحاق به من خلال وضع حصص دراسية في هذا العلم مع توفير قاعات للانترنت في كل مدرسة وهو ليس بالأمر الصعب على دولتنا الغنيّة!
· وماذا بعد؟
– ننتظر أن تقوم وزارة التربية بإعادة المعلمين الذين فصلوا من التعليم لأسباب أكثرها سياسية وتأهيلهم من جديد ليأخذوا دورهم الكبير في إعداد الجيل القادم.
مقترحات طرحها صديقنا المعلّم علينا ونحن بدورنا نقدّمها لمن يهمّهُ الأمر وعسى أن نجد من يهمه الأمر والذي لا يقول أن هذا لا يعنيني. 

* خروج غير إجباري: 

بعد إن أوجزنا بعض الحالات التي مرّت على المعلّم في عراق صدام ها نحن نحاول العودة من حيث أتينا رغم أننا لم نأتِ على كثير من الحالات التي أرهقت المعلّم وحوّلته الى آلة بيد النظام لا واجب له الا التعداد الصباحي وترديد وصايا القائد وكلمات القائد وحكم القائد حتى (تأدلج) الصغار دون إرادتهم، ولا أجد ما اذكره يليق بهذا المقام غير ذلك الذي أخبرتني به سيدة معلّمة حيث أنها بعد عودة المدارس للدوام (بعد انتهاء العمليات الحربية) وعندما دخلت الصف صاح المراقب: قيام.. فردد الصغار دون أن يهمّهم أمر سقوط النظام (عاش القائد صدام!!). وهذا ما عانيناه جميعاً ونحن نبحث عن إجابة لأبنائنا وهم يسألوننا (هل نقرأ وصايا القائد في الإصطفاف؟!).. هنا نعرف كم قصّر التعليم بحق أبنائنا التلاميذ بحيث جعلهم ببغاوات تردد ما يريده النظام.

الحوار المتمدن-العدد: 1405 – 2005 / 12 / 20

Share: