من ذاكرة أشجار المدينة : كتابات العاشقين

حين كنا صغاراً ونخرج مع مجاميع التلاميذ في السفرات المدرسية التي تقيمها مدارسنا، كنا نتجول في الحدائق ونقرأ تلك الخطوط والرسومات المنقوشة على جذوع أشجار اليوكالبتوس.. رسوم مختلفة، أسماء وقلوب تخترقها السهام، وعيون دامعة ، وشمس مطفأة، ووجوه باسمة واخرى باكية.. كل ذلك كنا نراه مرسوماً على جذوع تلك الأشجار الشامخة، اشجار عملاقة منتصبة منذ سنين طويلة وكانها تتحدى الزمن.. تجولنا اليوم، وبعد مرور اكثر من ثلاثين عاماً ، بعد ان خط العمر لونه البيض على شعورنا، تجولنا بين بعض تلك الأشجار والتي ما زالت باقية، تحدث الزمن ، وتحدت قرارات النظام السابق الذي احال الأرض الى يباب، وقلع الأشجار، وما بين تلك الأشجار المعمرة جلسنا من جديد مستذكرين لحظات الطفولة التي لم تغادرنا ابداً.. وبدأنا نعيد تلك الأيام التي لم نر اجمل منها ابداً!!

· ذكرى يوم النجاح 16 حزيران 1970:

هذه الذكرى وجدتها تطعن في الصدر اكثر من غيرها، لأنها تحمل ذكرى عزيزة لشخص لم يذكر اسمه ولم يذكر المرحلة التي نجح فيها.. لكنها بالتأكيد ذكرى لم تغب عن ذهنه ابداً وربما هو الآن يتذكرها او يزورها بين فترة وأخرى هذا اذا لم يكن قد غادر الحياة!! اربعة وعشرون عاماً مضت والرسم ما زال محفوراً في الجذع، خطوطاً متعرجة اتخذها النمل معبراً، واتخذناه نحن رمزاً للحياة الجميلة..

· الحب الخالد :

في مكان آخر من ذات الشجرة كتب احدهم الحب الخالد، ولا أدري هل يعني فيلماً من أفلام الستينيات أو السبعينيات لعبد الحليم حافظ أو فريد الأطرش أو عبد الوهاب اولئك الذين كنا نذوب بالحانهم وغنائهم مع السيدة أم كلثوم.. هذا الحب هل بقي خالداً كما هو الخط رغم عواصف الدهر ونكبات الحروب واعتقالات الزيتونيين؟

الحب الخالد كلمة، ربما كتبها عاشق مر مرور الكرام على هذه الشجرة وسط ظروف عاطفية قاسية جعلته يمهر بسكينٍ صغير على جسد الشجرة ما يليق لهذا الحب أن يكون.. ربما نسى ذاك المرء حبه الخالد وبقي معلقاً في فضاء الشجرة!!

· آه ماكو وفه:

قد تبدو كلمة الوفاء في زمن كهذا غريبة، غرابة الوضع الجديد واستلاب الإنسان، غرابة التفجيرات والمفخخات على مجتمعنا الآمن النظيف الشريف المتدفق انسانية وحباً للحياة.. هذه الكلمة غادرت قاموسنا منذ زمن بعيد ، منذ ان بدأت موجة المصطلحات الجديدة تطرق ابوابنا في العمل والبيوت والمدارس والمقاهي والشوارع والساحات، تلك المصطلحات التي يتغنى بها بعضهم بسذاجة وانتعاش غريبين، القفاصة ومنها يتشعب التقفيص/ العلاّسة/ السلابة/الفرهود/ وما الى ذلك من كلمات لم اسغب في إدراجها في موضوعٍ يبحث عن اسرار المحبين في زمن الحب النظيف..
ما الذي جعل ذاك الإنسان ان يكتب هذه الجملة (آه.. ماكو وفه) وأي وفاء يعني، وفاء الصديق أم وفاء الأهل، ام الحبيبة.. ورغم انها واحدة الا ان اختلافها واضح من خلال الجو النفسي المحيط بحالة ذاك الإنسان، فالذي يشكو من عدم وفاء الصديق ليس كمثل الذي يشكو من هجر الحبيبة وعدم وفائها.. هذا بالتأكيد اقسى على النفس رغم أن الصداقة هي الأخرى مقدسة.
والآن ماذا اقول لصاحب تلك الكلمة التي لم يذكر تاريخها وجعلها تعوم في اللازمان وكأنه يشعرنا بان الوفاء ضرورة لكل زمان ومكان..

· قلب + قلب= عذاب:

لا ادري ، هل يسخر منا القدر أم هي الحياة هكذا تسير عكس اتجاه القلوب.. كل قصص الغرام التي قرأناها بالأمس والتي نشاهدها في التلفاز اليوم ذات نهايات ماساوية هذا الحب الجميل، العالم السرمدي الرائع، الحلمي العذبن كيف ينتهي بمثل تلك النهايات القاسية؟
هذا السؤال لم اسأله انا فقط لنفسي وانما سأله غيري عدة مرات، وربما وقعنا نحن ذات يوم بما ندور الآن في فلكه؛ فلك العذاب والبعد.. هذه الكتابة لم يسمها تخيلي انما وجدتها فعلاً مرسومة على جذع يابس يباس الحياة التي مررنا بها في عاتيات الزمان المجدب، هذان القلبان اللذان كتبا باصابع مرتعشة امتزجا مع رسمين آخرين لقلبين بحجم الكف يخترقهما سهم كيوبيد الذي لا يرحم!!

· ذكرى سمير وكاظم (……) :

حاولت أن اقرأ السطر المتعرج جيداً لكني لم افلح بحل طلاسم حروف ما بعد كاظم.. ربما اراد أن يقول بتاريخ (كذا) ولكن أكل الزمان جزءاً منها وترك السمين شاهدين على صداقة لم تنتهِ.. هل نستطيع ان نخمّن أين هما الآن؟.. لنترك ذلك لك – عزيزي القارئ- ربما تلتقي بهما ذات يوم!!

· (…….)

شخابيط متداخلة، خطوط عميقة وضيقة حُفرت في بدن الشجرة تكاد ترى لحاءها وتعد عدد سنينها، ثمة شيء تصلب على حافة الشق كان في يوم ما سائل ذرفتها بعدما حفرت الأدات بدنها الطري.. يبدو أن اطفالاً عبثوا بها، ولكن متى..؟ هؤلاء الأطفال ربما الآن هم آباء لأطفال لم يعرفوا السفرات المدرسية والنقوش على بدن الأشجار.. زمان ولّى وآخر يجيء وتبقى الأماني عالقة في الأهداب لن تنزل ما دام الدمع يذيبها!!
هذه الشخابيط اعادتني الى أيام الشقاوة التي تعترينا خلال السفرات المدرسية بعيداً عن أعين الآباء، لم يغضب معلمنا (مرشد الصف) منا لأن صرخاتنا وكركراتنا تصل الى حد لا يطاق ، كان يتحمل كل ذاك من أجل أن يوفّر الجو النفسي لتلاميذه، فأين منه الآن أولئك الذين لم يهمهم الأجواء النفسية للتلاميذ؟

· نهاية المطاف :

لا نريد ان ننهي مطافنا بكلمة، لأن كتابات الحب لم تنته بكلمة ولكن اردنا ان نوقظ بعض أحاسيسنا التي بردت وتجمدت وغدت مثل هشيم السنوات الماضية.. قد يبدو استطلاعنا هذا مختلفاً عما كتبناه في الأعداد الماضية ولكن من حق القارئ الكريم ان نمنحه فرصة للأسترخاء من خلال مثل هذا التحقيق ونتمنى ان نكون قد وفقنا في ذلك ورجّعناكم الى الماضي البعيد!! 

الحوار المتمدن-العدد: 1408 – 2005 / 12 / 23

Share: