المشهد العراقي ما بين زحمة السيارات والشعارات

قبل سنين عديدة، لم تكن أزقتنا او شوارعنا بهذه الحالة، كانت شبه فارغة الا من سيارة او سيارتين ، كان هذا قبل ان تبدأ شركة فورد ووكيلها حافظ القاضي باستلام وجبة السيارات المصدّرة الى العراق عبر ميناء البصرة او الكويت..واتذكّر حين نزلت الى البصرة لأول مرة استغربت من ذاك العدد الذي كنت أتصوره هائلاً من السيارات.. كان كراج الفاو في مكانه القديم خلف البنك المركزي العراقي فرع البصرة.. باصات خشب وعربات مختلفة وسيارات فورد وشوفرليت.. كبرنا نحن ولم تكبر شوارعنا فغدت صغيرة في أعيننا حتى مطرت السماء سيارات من شتى الأنواع بمقود أيسر وايمن ومنها بدأت معاناتنا كمشاة ومعاناة رجال المرور وحتى أصحاب السيارات أنفسهم!! هذه المعاناة حملناها جميعاً وسط غياب القانون الصارم الذي يحد من التجاوزات فصارت الشوارع غابات ياكل فيها القوي الضعيف وسط حيرة رجل المرور الذي ما زال يداري (خبزته!!

· رجال المرور.. إسود الشارع:

ليس اعلاناً لرجال المرور ما نذكره الآن ولكن نعلنها أمام الملأ أننا ننحاز الى ذلك الإنسان الذي يتحمل ضجيج السيارات والسابلة وتجاوز السواق وتهديداتهم اللامنتهية.. شاهدنا من خلال استطلاعنا هذا مشاهد كثيرة تدل على حرص هذا الرجل لتطبيق النظام لكنه ما زال عاجزاً أمام ظروف عديدة جعلت كثيرين يظنون انهم اسياد الشارع وما غيرهم الا عبيداً.. هذه الظاهرة بدت واضحة للعيان ربما ليس في شوارع البصرة وحسب وانما في شوارع مدن العراق قاطبة.. شانهم شأن أولئك الممسكين بنادقهم على طول طريق بصرة بغداد أو حتى في الشوارع الخلفية للمدينة يسلبون هذه السيارة او تلك ليسجلوا في تاريخ الحواسم سطورهم الخالدة!!
نعود الى شرطي المرور، الذي قلنا اننا ننحاز اليه لا لشيء الا لأنه يطبق القانون في وقت نحن نثير الغبار في وجه تلك الفقرات التي تحد من التجاوزات.. هذا الشرطي من منا لم يره واقفاً وسط الشارع في حر الصيف وبرد الشتاء ، يشير بيديه الكريمتين حيث السلامة والأمان، ويعتب على سائقٍ تجاوز الإشارة ويرمقه بنظرة واحدة ظناً منه ان الناس ما زالوا يتذكرون الحكمة التي تقول (الحر تكفيه الإشارة) فأيّ إشارة ترجع هذا السائق الى صوابه وتجعله يعتذر من رجل المرور.. لا اعتقد ان احداً فعلها أو لكي لا نظلم احداً ربما هناك نسبة ضئيلة جداً اقدموا على الإعتذار من شرطي المرور لحالةٍ خطأ لم يقصدونها!!
ومن غرائب الأمور أن تقف إشارات المرور منتصبة في شوارعنا تنظر الى الشرطي بعين العطف، لقد ماتت تلك الإشارات الضوئية ولا ندري متى تُعاد الى الحياة ثانية ليرى ابناؤنا الألوان الثلاث الأحمر والأصفر والأخضر، تلك الألوان التي لم يرها جيل كامل من الأبناء.. من يصدق هذا؟!
نحن ندري لماذا ازدحمت شوارعنا بالسيارات، ولماذا صار ركوب السيارة في هذه الأيام مثل ركوب بعير في أيام الجاهلية!! ذاك لأن أصحاب البعران بعدما تبعرنوا أكلوا شوارعنا مثلما يأكلوا حقوق غيرهم في زمن سمّوه هم زمن الحواسم .. فمن يا ترى يعيد ميزان الحق الى وضعه؟!

· إعلانات بالمجّان:

نظرة واحدة الى شوارعنا الغاصة بالناس والسيارات تجعلنا نرثي حظنا في تلك الشركات التي غرزت إعلاناتها في الجزرات الوسطية دون أن تأخذ إذناً من دائرة البلدية فالذي معمول به في دول العالم ان يتم التعاقد بين أصحاب الشركات وأمانة المدينة أو البلدية في المكان الذي يخصص للإعلان وفق شروط لازمة منها أن لا يعرقل الإعلان حركة السابلة او المشاة وان لا يسيء الى الذوق العام وما الى ذلك من شروط تضعها البلدية على أصحاب الإعلانات مقابل رسوم للدولة.. هذه الحالة وفي هذا الزمن، وبعد ان اخذ القانون إجازة استمرت الى عدة اشهر بعد سقوط النظام غير موجودة، فيكيفيك ان تسير في الشوارع لتجد عشرات الإعلانات عن ماركات السيجائر والأجهزة الكهربائية والتي تزاحم تلك الإعلانات الرائعة التي تناشد الى وحدة الصف العراقي.. 
ثم ان هذه الإعلانات قد وصلت الى ما لا يمكن تصوره وهي لوحات المرور التي تشير الى اسماء الشوارع والمدن واللوحات التحذيرية، فعليها لصقت إعلانات مختلفة لمفقودين وباحثين عن عمل وفرصة استثمار في بلد لم يبستثمر ابناؤه الا نزيف الدم.. 
أننا أمام حالة يجب ان يطبّق فيها القانون فالشارع ليس ملكاً لحد، فهو حق عام لكل الناس وعلى الشركات ان تراعي الذوق العام لأبناء مدننا الباحثين عن لقمةٍ حلال!
وانظر ايها الزائر لمدينتنا تلك الجدران التي ازدحمت بإعلانات مكاتب التسجيل والتعليم والكمبيوتر وصالات التصوير، مربعات متداخلة وضعت على الجدران مما شوّه وجه المدينة، ونحن لا نريد ان نحرم هؤلاء من فرصة الإعلان عن مشاريعهم ولكن إن فكّر احدٌ في هذا فعليه ان يراعي جمالية المدينة فنحن قد دخلنا عصر الجمال وليس من المعقول ان نشوّه جدراننا بهذه الإعلانات..

· شعارات.. شعارات:

نحن مع كل الذين ينادون بحرية الإنسان وبكرامة الإنسان العراقي وضرورة إشراكه في العملية السياسية للعراق الجديد.. نحن مع الكل فعلاً وليس قولاً.. نطالب بما يطالب به ابناء هذا البلد المكلوم عسى وان يستريح ابناؤه بعد تعب طويل.. ولكن ان تُكتب الشعارات بالطريقة التي نشاهدها كل يوم فهذا يسيء الى رؤيتنا السياسية.. فالفيدرالية ليست شعاراً يُكتب على جدار متهرئ، والديمقراطية ليست خطوطاً تنام على جدار دائرة دفعت مبالغ طائلة من أجل تعميرها لتطلى بالوان مختلفة وشعارات لا اول لها ولا آخر.. علينا أن نضع لوحات خاصة لكتابة مثل هذه الشعارات التي توعّي شعبنا وتضعهم على طريق البناء لا ان نعلّم أولادنا الكتابة على الحائط كيفما شئنا لياتي الآخر ويكتب في ذات المكان ليكون الجدار بعد ذلك لوحة من الخطوط الحمراء والزرقاء والتي لا يفهم منها شيئاً.. من اجل مدينتنا الأجمل رفقاً بجدرانها وشوارعها.. وعلينا ان نتكاتف يداً واحدة وقلباً واحداً وإرادة واحدة خاصة وان الإنتخابات تدق ابوابنا وهي اول عملية ديمقراطية حقيقية نقوم بها.. 

· أشجار واشجان 

ماذا بقي لدينا من حديث عن الشوارع، ليس الا تلك الأشجار الميتة والتي تبحث عن يدٍ ترويها من بعد ظمأ.. الجزرات الوسطية في شوارعنا متربة، موحلة، خالية من الأشجار.. أما تلك التي زرعت فيها شجرة أو عدة اشجار فقد قتلها الظمأ ويبست، وما علينا اليوم الا ان نبادر كافراد في حملة لتشجير المدينة.. على كل امرئ أن يزرع شجرة لتسجل باسمه خير له من ان يضرب إشارة المرور او يبني محلاً في فضاء الرصيف ليعرقل المشاة ويشوه وجه المدينة..
كان فيما مضى يوم يسمى يوم الشجرة، وهو عيد آذاري، يعرفه الخوة الأكراد اكثر منا.. يا حبذا لو تكاتفنا وخرجنا في يوم واحد لنزرع مدينتنا اشجاراً ونُري العالم كيف يفكر العراقي الجديد.. فبدلاً من صورة الدمار والموت والقتل العشوائي والجريمة المنظمة لنشد ازرنا ونرسم البهجة على وجوه شوارعنا الكالحة.. نزرع شجرة هنا وشجرة هناك لينعم ابناؤنا بعد حين بمدينة اجمل ..
هذه دعوة للجميع، دعوة لتطبيق النظام، واخرى لتجميل المدينة، وثالثة للوحدة الوطنية فالعراقيون اخوة في الوطن والدين والضمير.

الحوار المتمدن-العدد: 1412 – 2005 / 12 / 27

Share: