تحت مطرقة الاحتلال

حين دخلت قوات الجنرال مود حامية الفاو في أعقاب الحرب الكونية الأولى عام 1914 ودُكّ الطوب العثماني بقذائف الإنجليز أطلق الجنرال مقولته (لم نأتِ فاتحين وإنما جئنا محررين) وكان يظن أن قوله سينطلي على عراقيي الأمس وكذلك فعل الجنرال مود وبيرسي كوكس حين ارتديا الكوفية والعقال العربيين ظناً منهما أنهما سيروّضان النفوس التي ما جبلت على القهر والاستلاب، فكانت الانتفاضات المتتالية رغم أن التاريخ قد حجَّم تأثيرها ذلك لأن الكثير من مؤرخي ذاك الزمان كانوا من المستشرقين القادمين مع البساطيل الإنجليزية..!
وبعد أربعة وأربعين عاماً عصف العراقيون بتراكمات الاحتلال الإنجليزي وأعلنوا استقلالهم في ثورة تموز 1958 المباركة فتساقطت كل الأوراق ومعها كل الأذناب من زماري ومطبلي النظام البائد.. 
هذا المدخل سطر عريض في تاريخ العراقيين، وهو عبرة للحاضر وكأن الزمان يعيد دورته، فينهض الباشوات من قبورهم يعتلون صهوة الاحتلال من جديد، ويزمرون له مرددين مثل ببغاوات حبيسة مفردة (التحرير) التي عزف عليها قبل أكثر من تسعين عاماً الجنرال (مود). 
وقبل أن يظن بنا أحد الظنون ويتهمنا بمناهضة (الأخوة) الذين (حررونا) من النظام الديكتاتوري لابد أن نشير إلى أن الأمريكان قد وضعوا العراق ومنذ عقود في حساباتهم الستراتيجية للإيقاع به وتسجيله في (عقارات) الأمم المتحدة ملكاً صرفاً لهم! وقد ساعدهم نظام صدام في ذلك من خلال عدد كبير من الأخطاء المقصودة وغير المقصودة الناتجة عن الغباء السياسي، وهم (الأمريكان) ما كانوا سيسعدون لو قامت انتفاضة كبرى أو ثورة على النظام الذي كان قائماً لأنهم عندها سوف لا يحظون بما هم عليه الآن، والمثل القريب موريتانيا.. فما أن انتفض العسكر الموريتانيون وأعلنوا الانقلاب حتى استنكرته أمريكا وشجبته بقوة! رغم أن الشعب الموريتاني رضي بالتغيير.. (مع معرفتنا الأكيدة بالفرق الكبير ما بين العراق وموريتانيا).. علينا أن ننظر إلى الأشياء بعين مركبة، من كل الزوايا، فالمحتلون خلصونا من النظام الفاشستي، الدموي، وفتحوا بلادنا على مصاريعها لكل شيء.. فصارت البلاد مثل إسفنجة تمتص كل ما يقرب منها حتى وإن كان فاسداً خبيثاً نتناً.. وصرنا ساحة للإرهاب، وسوقاً للمخدرات والجريمة المنظمة.. فوق كل هذا فقد أعلن المحتلون الحرب على الإرهاب وسط مدننا الآهلة بالسكان. ومن أجل القضاء على عشرة إرهابيين في مدينة ما تشن حملة عسكرية، تهدم فيها البيوت، وتشرد النساء والأطفال وسط تعتيم إعلامي تارة، وإيجاز مشوّه تارةً أخرى بحيث لا يعرف أبناء الجنوب ما يجري في مدن الشمال.. باستثناء مدينة النجف الأشرف الذي لم يستطع المحتلون- آنذاك- من إخفاء الحقائق، وللحقيقة فأننا ضد كل عمل إرهابي يُراد منه قتل الناس الأبرياء، أي عمل إرهابي ومن أي صنف وأية جهة حتى وإن كان من طرف قوات الاحتلال… وفي الوقت الذي بدأنا فيه نفكر بالاستماع إلى الرأي الآخر في أجواء الديمقراطية والحرية، تتغلب علينا العصبية القبلية، أو الطائفية، لنستبيح آراء كثيرين ونصادرها بحجج واهية ليس آخرها المصالح الفردية!
المدن تموت تحت مطرقة الاحتلال بحجة الحرب على الإرهاب، أهالي تلعفر قضوا نهاراتهم في العراء بحجة تنظيف مدينتهم من الإرهاب، وكذلك حديثة، وبالأمس الفلوجة والرمادي… في الوقت الذي يكون فيه متسع لتحقيق ذاك الهدف بأقل الخسائر، ودون تشريد للناس من ديارهم.. ولا نريد أن نضع أنفسنا بديلاً عن مصدر القرار أو رأسه فأولئك قادرون على تحقيق المعجزات بعيداً عن الإرادة الأمريكية التي لا يؤسفها إزهاق أرواح العراقيين.!
من أجل بضع إرهابيين تقتل المدن.. ولا اعتذار من جانب القتلة! وهو أمر طبيعي تعودنا عليه منذ الضربات الدموية بحجة القضاء على صدام. 
– لا يهم كم من العراقيين يمضي ما دامت منابع أقوى احتياطي للبترول بأيدينا!
كنا نظن وحتى وقت قريب أن وعي الشارع لم يكن موجوداً أبداً، لكننا استوقفتنا أحاديث لأناس بسطاء نسوقها بشكل سريع: 
• متى تنتهي الأزمات؟ 
– أي منها؟ فهي كثيرة، أزمة النفط، البنزين، الحصة التموينية، النظافة، الكهرباء، الرشاوى، البطالة، الفساد الإداري، التدني بالمستوى العلمي، الأميّة، المتقاعدون، الاختناقات المرورية، البناء العشوائي، الماء، المجاري،….،……،…… ؟!
• هل تنتهي؟
– نعم … 
• كيف؟ 
– بالمشاركة الشعبية.. وإحساس الدولة بالمواطن.. والتمسك بإراداتها الوطنية بعيداً عن الهيمنة الاستعمارية.. والاعتماد على النفس دون انتظار الصدقات مما يسمى بالدول المانحة فالعراقيون حتى في سنوات الجوع ما اعتاشوا على الصدقات!
• وهذا كثير.. 
– دونه لا يمكن أن تبني وطناً!
• والإرهاب؟ 
– موجود في كل بقاع الأرض، ولم يثن عزم أية دولة، علينا أن نجعله حافزاً للبناء. 
هذا جزء من تفكير الشارع العراقي الذي ينتظر بصبر كبير أن لا تذهب أمواله إلى جيوب المتصيدين بالمياه العكرة تحت لافتات مؤسسات إغاثوية وإنسانوية أو إلى جيوب مترجمي الاحتلال الذين ذكرهم السيد واثب العامود في لقاء بثته له قناة الفيحاء الفضائية مساء يوم 13/آب/2005 وهو يستعرض مسيرة الإعمار في البصرة.
الوطن بحاجة إلى الحكمة، والبصيرة الثاقبة.. لا إلى الترهيب والرصاصات القاتلة.. بحاجة إلى السلام الذي هو طريقنا إلى البناء، بناء النفوس أولاً وقبل كل شيء، ومن ثم إعمار الأرض التي جعلنا الله فيها خلفاء ودون ذلك سنكون (رضينا أم أبينا) مصيدة للإرهابيين. 

الحوار المتمدن-العدد: 1413 – 2005 / 12 / 28

Share: