مونودراما نافذة
الشخوص
١- العجوز العمياء
٢- اللص
فناء منزل، مظلم في جانبه الأيمن، اضاءة بسيطة تظهر شباك، أثاث قديم موزع هنا وهناك.
من خلال الشباك يطل اللص برأسه، ينظر يمينا وشمالا، يفتح ضلفتي الشباك بهدوء، يدخل ويغلق الشباك خلفه. يتحرك في المكان، يقترب من منضدة وضعت عليها عدد من الأكواب، يحمل واحدة منها وينظر لها، ثم يضعها في حقيبة يحملها في كتفه.
من المكان الأيمن المظلم يسمع صوت العجوز العمياء.
العجوز: هل جئت؟ ما الذي أخّرك؟ ألم تقل لي أن المشوار الى الصيدلية لا يأخذ إلا نصف ساعة. انتظرتك ساعات وقد قلقت عليك. لولا عجزي وعماي لخرجت باحثة عنك. (بصوت عال وبألم) ما الذي أخّرك (تخرج من المنطقة المظلمة وتقترب من اللص وهي على كرسي متحرك)
اللص: (يبتعد عنها)
العجوز: (تتوقف) يا ويلك أن عدت الى الشرب! تعال هنا لأشمّ فمك. (تقترب منه وهو يبتعد عنها، تتوقف) ما الذي يجعلك صامتاً ؟ تكلّم.. لم أعهدك صامتاً كما أراك الآن. (بصوت عال) ما الذي يخرسك؟ تعال اقترب مني. لا تقف بعيداً. (تصمت قليلاً) أنا لا ألومك أبداً، لكني ألوم ذاك الصعلوك الذي أخذك لتلك الدروب! (بحسرة) آهٍ لو لم ينطفئ بصري لعاملتك مثلما كنت أعامل تلميذاتي في الصف المدرسي. أما كنت تسمع زميلاتي المعلمات، وهنّ يصفنني بالمعلمة الشديدة؟ نعم، كنت شديدة على تلميذاتي لمصلحتهن، ألم يقولوا اتبع الذي يبكيك، ولا تتبع الذي يُضحكك؟ ها هنّ تلميذاتي، وقد أصبحن الآن معلمات، ومهندسات، وطبيبات.. (تصمت قليلاً) أنا فرحت بهن، وأريد أن أفرح بك، مثلما فرحت بهنّ! ماذا أقول للحظّ الذي أخذ بصري، وعافيتي، وأخذك أنت مني.
اللص: (ينظر لها باستغراب)
العجوز: يا له من قدر مؤلم. قدر أخذ مني ما أخذ، ولم يبقِ لي بصراً. للآن صورتك ماثلة في مخيلتي، يوم جئتني بنتيجة الامتحان متفوقاً في كل الدروس، ابتسامتك أنستني كل ما عشته من ضيم (تبتسم) يومها، اشتريت لك دراجة هوائية، وحذاءً رياضياً، كنت أنت تحب الرياضة، وكنت اشجعك عليها، ليكون جسمك رياضياً سليماً. مثل أبيك تماماً، كان رياضياً، وكانت زميلاتي في المدرسة، يحسدنني عليه، واحدة تصفه بالنجم السينمائي، وأخرى تراه ملاكاً يمشي على الأرض، أما أنا (تبتسم) فأراه زوجاً صالحاً. (تصمت قليلا) كان أبوك يحلم في أن نملأ بيتنا بنات، وأولاداً. لكننا لم نحصل الا على ولد واحد، لأنه راح قبلما يحقق حلمه. (تصمت قليلاً) ليست كل الأحلام قابلة للتحقيق! نحن نحلم، كي نوهم أنفسنا أننا نكون، كما يجب أن نكون! (تصمت قليلاً، وترفع رأسها نحو اللص) ها. ما زلت صامتاً. تركتني أخرج كل ما في القلب، وبقيت صامتاً. لا تريد أن تقول شيئاً. ألم تحرك تلك الذكريات بك شيئاً؟ بالنسبة لي، ما زلت أعيش على الذكريات. ما كان بيدي كي أعيش، الا أن أسترجع ما هو أجمل من أيامي. ولا يوجد ما هو أجمل من كونكما معي. بكيت كثيراً، حتى ابيضّت عيناي. أراد الرب أن يطفئ عينيّ، كي أحتفظ بصورتيكما اللتين علقتهما على ذاك الحائط (تشير الى الحائط وقد علقت فيه صورتان لرجل أربعيني وآخر لشاب وضع على الصورتين شريطاً أسود)
اللص: (ينظر الى الصورتين)
العجوز: كل يوم أزيل الغبار عنهما، مثلما أرفع في كل يوم عن ذاكرتي، غبار تلك السنوات. (تصمت قليلاً، ترفع وجهها نحوه) هل جلبتَ لي الدواء؟ إذا كنت قد جلبته، فضعه على الطاولة. اطمئن، لن أوبخك على تأخيرك، بالرغم من أنه طال! (مع نفسها) لقد طال كثيراً.. لن أوبخك ثانية، وإن كنت قد وبختك من قبل، فهو قلبي الذي يخاف عليك. أخشى أن تخرج ولا تعود مثل أبيك. خرج ولم يعد! ثم قالوا لي أنه لن يعود أبداً.. (تصمت قليلاً، ثم بحزن شديد) الموت يا ولدي عبرة. لهذا أخشى أن تذهب، ولا تعود. لا أريدك أن تخرج من هذا البيت (تبكي) ابقَ معي، لا أريد منك شيئاً سوى أن تبقى. (تستمر بالبكاء)
اللص: (يقترب منها، يجلس أمامها، يضع رأسها في حجرها)
العجوز: (تتحسس رأسه، تلاعب شعره) ألم تقل لي أنك ستقصّ شعرك؟ شعرك طويل يا ولدي. أريدك أن تصبح مثل أبيك، نجماً سينمائياً. (تبتسم) لكن لا يهم، ابقَ كما أنت. إن كنت تريد شعراً طويلاً، فلا بأس، لا أجبرك على قصّه. إجعله كما تريد. لا أريد أن أفرض عليك ما لم ترغب فيه.
اللص: (يحاول رفع رأسه)
العجوز: (ما زالت ممسكة به) لا.. إبقَ حيث أنت. ابقَ في حجري كما كنت تفعل. هذا هو المكان الوحيد الذي يجعلك آمناً، ويجعلني مطمئنة من أنك لن تذهب بعيداً. ابقَ يا ولدي. سأغني لك أغنية ما قبل النوم. ستغفو آمناً مطمئناً في حجري. وستحلم. حضن الأم يا ولدي يبقى مرتعاً خصباً للأحلام. إحلم كما تشاء. أو كما يشاء الحلم لك. لا أريدك أن تذهب مرة أخرى. يكفي أنك ذهبت مرة. أريدك معي، معي دائماً. ابقَ حيث أنت في الحجر الذي عرفته، وعرفك. هذا هو مكانك الأبدي. أرجوك، لا تغادره. (بقوة واصرار وهي تضغط على راسه) لا اسمح لأحد أن يأخذك مني.
اللص: (يحاول تخليص نفسه منها، يقع على الأرض)
العجوز: (تدفع كرسيها وتصطدم به) يا رب، أعطيتني فأخذت، دعني أعيش في قارورة ذاكرتي، لا اريد أن أغادرها، مكاني فيها، دونها لا أشعر بالحياة.
اللص: (ينهض متثاقلاً، يبتعد عنها)
العجوز: (تتبعه متوسلة) عُدْ إليَّ، تعبت من البحث عنك، من مخفر الى مخفر، ومن مستشفى الى آخر. عُد إليّ وبدد حزني، وأصلح حياتي. لا تذهب بعيداً، وتتركني أتصارع مع كوابيسي.
اللص: (يقترب من الصور، ينظر الى صورة الشاب ثم يعود الى النافذة ليهرب)
العجوز: (تتبعه، تصل إليه، تتمسك بساقه) أرجوك، لا تذهب. لم اصدّق نفسي أنك عدت، ليتك تشعر ما في قلبي، من شوق، وحنين. أكاد أن أجن.
اللص: (يحاول تخليص ساقه من يديها، يتمكن ويخرج من النافذة)
العجوز: (تقترب من النافذة، تتحسسها، بألم) ليتني لم أترك النافذة مفتوحة. ليتني أغلقت كل الأبواب كي لا تذهب. ليتني أغلقت النافذة اللعينة. وطمرت كل ثقب في هذا البيت كي يبقى محتفظاً بوجوه أهله. (تضرب النافذة بقوة) اللعنة على كل نافذة غيّبت وجوهاً ما كنا لنعيش إلا من أجلها. كرهتك أيتها النافذة اللعينة. تباً لك. تباً لك. (تغلق النافذة بقوة، اظلام)
العجوز: (يسمع صوتها وهي في العتمة) لماذا أولادنا يتساقطون مثل حبات المطر.. لماذا.. لماذا.. لماذا (تكرر حتى يخفت صوتها)
البصرة المظلومة
٢٠٢١/٣/٦
اترك تعليقا