رحلة دينار

شخصية المسرحية:

 المهرج وهو راوٍ بملابس طبعت عليها صورة دينار أو العملة المحلية

 (يدخل المهرج وهو يحمل جهاز فحص العملة)

 المهرج: لن اترككم تنتظرون طويل، ها انذا قد بدأت، لا اريد ان تكون البداية  روتينية او.. (يفكر) أو كلاسيكية، فأنا بالرغم من اني ابدو كلاسيكيا، الا اني اتكيّف مع العصر، انا في كل العصور واحد، لم اختلف، الاختلاف فيكم انتم.. كيف ذلك؟حسناً، سأقول لكم، ولكن إياكم ان تتهمونني بالخديعة، انا بالاساس لن أخدع أحداً، منذ يوم ولادتي الى اليوم.. كل واحد منكم يعرف يوم ولادته، الا انا، اختلف المؤرخون وراحَ كل واحد منهم ينسبني إلى تاريخ حسب ظنّه، لكن بالحقيقة أن أول من سمّاني دينار، هو الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، اول من أطلق عليّ اسم دينار، هذا كان اسمي العربي، بعدما كان اجدادكم يتعاملون بقطع رومانية. لست شريراً، لكنكم قد تعتبرونني سبباً لكل شيء، قلت لكم، لست شريراً، لأن النفوس الشريرة هي التي تستخدمني لاغراضها، ومنافعها، وشرورها. منذ ظهوري وأنا أتنقل من مكان الى آخر، ومن يدٍ إلى أخرى، طالما تلعنونني، وتسبونني، وأحيانا تمزقونني، لا لشيء الا لانكم تظنون أني مصدر تعاستكم، بينما الحقيقة التي لا تريدون الافصاح عنها، انا سبب سعادتكم، بصراحة، بدوني ستجوعون، وبدوني تتعرون، وبدوني تتسولون، وبدوني ستكونون عزّاباً طول حياتكم (يضحك) بعضكم لم يقتنع بكلامي، لانه يرى العازب يلعنني، والمتزوج ايضا. ما الذي تريدونه ان افعله لكم، لا العازب راضٍ، ولا المتزوج (مؤكدا) و الأرمل والمطلّق أيضاً. هذا عن الرجال، فماذا عن الجنس اللطيف؟ (ضاحكا) يسمونهم الجنس اللطيف، وأنا لا أرى أيّ لطف فيهن، فهنّ سرعان ما يتخلين عني، ويتخلصن مني. ما ان يحصلنَ عليّ، حتى يسلمنني إلى سائق تاكسي، أو بقّال، أو محل للألبسة، والحقائب الاوروبية، او لبائع الذهب. هكذا صارت الحقيبة، ومثلها الحذاء، أفضل منّي (يضحك) لاعتب عليهنَّ، حتى وان زعلتنَّ انتنَّ (يشير الى الجالسات من الجمهور) ولكن تمهّلوا، هو ليس سرّاً، لكنّها الحقيقة، حقائب النساء هي افضل مكان لي، هناك استطيع ان اشمّ انواع العطور، وأغلاها، واتحسس علب الماكياج، من الفاونديشن والكونسيلر بألوانه، وأحمر الخدود والشفاه وغيرها كثير.. (الى جمهور النساء) هل عرفتنَّ الآن بأني أعرف كل أسراركنَّ (يضحك) أعرف ما تخفينَ في حقائبكنَّ.. (مازال يضحك) لابل أعرف كلّ أسرار البيوت، لكنّي لا أبوح بها.. من منكم أكثر حفظاً للأسرار (بثقة) طبعا لا أحد.. أعرف كريمكم، وبخيلكم، وأعرف طيبكم وخبيثكم، وأعرف كيف تتصرفون مع بعضكم. (يجلس مسترخياً) عند الإشارة الضوئية، يتوقف البخيل بسيارته، يقترب منه طفل بملامح بريئة، وعينين غائرتين فرط التعب. يمد يده الناعمة قائلاً:  – على باب الله، اخوتي جياع، اعطني مما اعطاك الله..! البخيل لا يأبه له، بينما كنت أنا في جيبه أصرخ:  

– هيا أيها البخيل، هيا يا أيها البخيل اخرجني من جيبك، قدمني لهذا الطفل، انه يحتاجني أكثر من حاجتك اليّ. 

الطفل يتوسل، كل جمل التوسل قالها، والبخيل لم يرف له جفن. كنت اتمنى لو استطيع القفز من جيبه الى يد الطفل الممدودة. ياله من قلب صلد، متحجر. الاشارة المرورية الضوئية الخضراء قطعت باب التوسل، انطلق البخيل مسرعاً في اللحظة التي لعنتُ فيها الحظَّ الذي وضعني في جيبه. انا لا اشجع التسول، أعرف أنها ظاهرة مقيتة، ولكن العتب على الظروف التي دفعت أولئك المحتاجين الى التسول. ملايين مني، بل مليارات في خزائن من لايستحقونني، يجمعونني سحتاً، ويصرفونني على ملذاتهم، وملاهيهم، بينما هناك كثيرون يتضورون جوعاً.. أليست هذه قسمة ضيزى أيها القدر؟!

 ذات يوم، وأنا في محفظةِ أحدهم، كنتُ أسالُ نفسي، في أيِّ يدٍ سأكون، وبأيِّ جيبٍ سأقضي نهاري؟.. ولم يمضِ نصف النهار، حتى رأيتُ يداً تمتدّ لتلك المحفظة، وهي في جيب بنطلون الرجل لتنتشلها بزحمة ركاب المصلحة العمومية. كنت ضحية عملية نشل. حملني النشال ونزل مسرعاً من المصلحة العمومية باتجاه مقهى شعبي، جلس على كرسيٍّ وسخٍ مثله، وراح يتأملني كأنه لم يرَ من قبل ديناراً مثلي.. وبعد برهة، جاء ثلاثة نشّالين من رفاقهِ، ورأيت اقراني الدنانير بأيديهم، قلت للدينار الأول:

– لا تبتئس يا صاحبي، قدرنا ان نحمل إثمَ هؤلاء، ليس بأيدينا إلا ان نحتفظ بأسرارهم، رضينا او لم نرضَ، سيبقى الحال على ما هو، ننتقل من يدٍ إلى أخرى دون ارادتنا. 

أجابني الدينار الأول:

– قبل ان يقوم هذا بفعلته، كنتُ فرحاً لفرح الشاب الذي استلم أول مرتّبٍ له. أراد ان يشتري لأمه ثوباً، لكن يدَ هذا اللص سبقت تحقيق ما أراد. اظنُّ انه الآن يوبّخُ نفسه، لأنه لم يحافظ جيداً على دنانيره! (يصمت قليلاً) لا أعرف ما الذي يدفع المرء الى ان يمدَّ يده الى مالِ غيره، أما كان من الأجدرِ، ان يعمل، ويكد، للحصول على مالٍ حلال؟.. ما شاهدته في حياتي، يكاد ان يدمي القلب، لكن في جانب آخر هناك ما يسر.. (مؤكدا) حقّاً، هناك ما يسر!.. في الجمعة الفائتة، وبعد ان عدّني واخوتي الرجل الذي يعمل في كشك بسيط، وضعنا في كيس أسود، ثم سلّمنا لامرأة كانت بحاجة الى اجراء عملية جراحية لابنتها. سمعته يقول لها:

– هذا كل مالدي، سيمهلني صاحب الكشك جمعة أخرى لتسليم مبلغ الايجار..

 أخذت المرأة الكيس، وهي تدعو له. فرحت له، أنا وإخوتي ونحن في الكيس، فرحنا لفرحها، وفرحت لأني صرتُ سبباً لإنقاذِ طفلةٍ، عكس ذلك البدين الذي راحَ ذات ليلة ينثرني على رأس راقصة في الملهى، نثرني دون وجع قلب، وبدأت قدما الراقصة تسحقني، دبوس حذاءها اخترق جسدي، مزقني. فرق كبير بين هذا وذاك، هذا البدين وعامل الكشك البسيط، هل تعلمون ان الفقراء اكثر احساسا بالناس، وأكثر رأفة ولطفاً. كلما وقعت في يد أحدهم أدعو ربي ان تكون هذه اليد حانية كريمة. المال يا سادتي ليست غاية، هو وسيلتك لتحقيق غاياتك، أنا لست وسخاً لدرجة انكم تصفونني بوسخ دنيا! الوساخة ليست بي أنا، بل بالنفوس التي لا تقدر!.

 انا الوحيد الذي لن يبقى في مكان واحد، اتجول من مكان لمكان، واتنقل من يد إلى يد. ناعمة وخشنة، حانية وقاسية، حياتي مليئة بالمفاجآت، من لحظة طباعتي حتى وضعي آلة الاتلاف. لكن كل تلك المتاعب انساها في ايام العيد، حين تحملني أكفُّ الصغار، تتلاعب بي، ارقص معهم، واغني، هم لا يحملون همّاً،  ولا يفكرون الا في لعبهم. يشترون بي ما لذّ وطاب. يركبون الحمير والسيارات مستأنسين بأوقاتهم، لكن تلك المتعة سرعان ما تغرب عنّي، وتبتعدُ، لحظة يسلّمني الطفل إلى البائع. هو لا يعرف بألمي وانا أفارقه، ولو كان يعرف ذلك لاحتفظ بي. اعرف ان براءته لا تسمح له بإيلام الآخرين.
(يجلس هادئاً) حياتي لم تكن أسعد من حياتكم، أنتم تسعون إليّ بشتى الطرق، مشروعة أو غير مشروعة! بينما أنا لا حول لي، لا كلمة لي، آه لو كان صوتي يصل اليكم، ينبهكم، ويمنعكم عن خطأ قد تقترفونه، لكن، لا صوت لي. كنت الأقوى بين أقراني من العملات، الدولار، والين، اليورو، الفرنك، الروبية، الجنيه.. كنت الأقوى، لكنكم، بتصرفكم جعلتمونني ضعيفاً، صرت لا اساوي شيئاً أمام تلك العملات، حتى صرتم تستأنسون بالدولار واليورو، وصرتُ في مرتبة لا أحسد عليها. (ينهض ويتقدم نحو الجمهور، ويشير اليهم) أنتم، وأنا، علاقةٌ لن تنتهي.. تملأون جيوبكم مني (يفكر قليلاً) وعلى ذكر الجيوب، أتعلمون لماذا يضع الخيّاطون الجيوب على الجانب الأيسر من قمصانكم؟ قد تبدو الإجابة بسيطة، لكنها غير متوقعة لبعضكم. هي الحقيقة التي تشير إلى أهميتي في حياتكم. جيوبكم فوق قلوبكم، حين تمتلأ الجيوب ترتاح القلوب، وحين تفرغ يصيبكم الهمّ والغمّ! ألم أقل لكم أن علاقتنا لن تنتهي؟ (يبتعد عن الجمهور) أترككم الآن، وإن احتجتموني ستجدوني في كل عمل شريف. (محذراً) ايّاكم أن تملأوا جيوبكم بمالٍ حرام. انتهى العرض الآن، سأعود الى جيب المخرج فهو يحتاجني لإكمال ما يحتاجه العرض.
اظلام- ستار

البصرة في ١٤/نيسان/٢٠٢١

Share: