شمر – مسرحية في فصل واحد

الشخوص:

1- الكاتب

2-شمر ومسؤول   (شخصية واحدة)

3-  مقنع

4- ممسوخون

(غرفة شبه معتمة علق في جدرانها اقنعة لوجوه مختلفة، فيما نصب قناع كبير في جانب المسرح، تخرج من عينيه وفمه وانفه كائنات ممسوخة ذات اقنعة، في الجانب الاخر منضدة عليها بعض الاوراق وكرسي يجلس عليه الكاتب.

الكائنات تخرج من القناع ثم تستدير نحو الكاتب، تحيط به..)

صوت من الخارج:

غريب دونه والموت لاءُ

تحاصره الحشودُ وكربلاءُ

وتنقضّ الرماح عليه شرّاً

وتصبغ شيبَ لحيتهِ الدماءُ

تناسى الموتُ انه كانَ موتاً

ودوّنَ لحظةً كبرى البلاءُ

ولاذَ بكترِ من نزفت عليهِ

دماً في يومِ مقتلهِ السماءُ

الممسوخون ينسحبون من المكان بحركات راقصة ويدخلون القناع فيما يبقى بعضهم وهو يراقب المكان.

الكاتب يبقى لوحده منشغلا بالكتابة، من تحت الطاولة وخلف الكاتب يمد (شمر) رأسه ويحاول ان يقرأ ما يكتبه الكاتب، يكرر حركته مرة في الجهة اليسرى ومرة في اليمنى..

شمر يمد يده ويسحب ورقة من الطاولة ويقرأها، ثم يسحب اخرى ويقرأها..

شمر: (مع نفسه) أهذا أنا…؟ أهذا أنا..؟

الكاتب: (غير مكترث به ولا يرد)

شمر: (منفعلا) لماذ لا ترد، ما الذي أخرسك، تملأ كل تلك الاوراق بالاكاذيب وتصمت..(يتوقف) أسألك للمرة الأخيرة..أهذا أنا..؟

الكاتب: (لا يرد)

شمر: (يزداد غضبا وما زال ممسكاً بالاوراق، يقرأ احداها) كان جباناً، منهزماً، لم يشهد له أحدٌ نزالاً واحداً، في يوم كربلاء كان يفزع النساء والأطفال….(يتوقف) أهذا أنا..؟ أنا من يفزع الأطفال والنساء..

الكاتب: (لا يرد)

شمر: (ما زل غاضبا) من قال لك ذلك..؟أنسيتم يوم صفين حين اصطفت الجيوش على مرمى البصر، وراح سيفي يأكل الرقاب، أنسيتم هذا..؟

الكاتب: (لا يرد)

شمر: (يقترب منه اكثر) لِمَ لا ترد..؟

الكاتب: (يسحب الورقة منه ويبدأ بالكتابة)

شمر: (يسحب الورقة بقوة) هات هذه الورقة اللعينة، تكتبون ما يحلو لكم وتغضون ابصاركم عما فعلناه حقّاً..

الكاتب: (ينظر له بسخرية ويردد مع نفسه) عمّا فعلتموه حقاً..

شمر: (بسخرية) ها…ها أنتذا تنطق، ظننتك أصماً أبكماً..

الكاتب: (ينظر له) الزمان كفيل بك..وبأمثالك.

شمر: أيُّ زمانٍ تقصد..؟ زماننا أم زمانكم..؟ ها.. زماننا كان زمان البطولة، زمان السيوف وقرع الطبول..طبولٌ تؤذن بالحربِ وبالنصر.

الكاتب: هل كانَ نصراً يوم جمعتم سيوفكم في كربلاء..؟

شمر: (بقوة) سيفٌ بسيف..!

الكاتب: حقٌّ وباطل.

شمر: باطلٌ ما تكتبه أنت، باطلٌ ما تقولون..

الكاتب: باطلٌ ما فعلتم..

شمر: هي الحربُ كرٌّ وفرٌّ، حياةٌ وموتٌ، ذلٌّ وعزٌّ..

الكاتب: (ملتفت اليه) ألا تشعر بالذلِّ..؟

شمر: أيشعرُ منتصرٌ بالذلِّ..؟

الكاتب: (ساخراً) أتظنك انتصرت..؟

شمر: سل الرماحَ كيف استقامت وراحت تطوفُ بالرؤوس..

الكاتب: أتعرف أيَّ رأسٍ حملت..

شمر: أعرف من ذبحت، هو خير الناسِ امّاً وأبا..

الكاتب: أمن الحق أن تذبحَ خيرَ الناسِ امّاً وابا..

شمر: (غاضباً) قلت هي الحرب..

الكاتب: لماذا أنت دون غيرك..

شمر: ومن غيري..؟

الكاتب: أمجبرٌ أنت على القتل..؟

شمر: خُلِقتُ لهذا، أرى عزّتي في الدماء، تسيلُ فأحيا، أحزُّ الرؤوسَ فتنمو بروحي رغبةٌ في البقاء..هي فرصةٌ جاءت إليَّ لازدادَ كبراً، فأن أنت قتلتَ القويَّ الكريم فذاكَ بأنكَ أقوى وأكرم..!

الكاتب: (ساخراً) الله ما أكرمك.. كريمٌ بسفكِ دمِ الأنقياء، كريمٌ بإهدار تلك الدماء..ما أكرمك..! منعت عن أهلِ بيتِ الرسول مياه الفرات، حرقتَ الخيام، سبيتَ النساء… ما أكرمك..!

(شمر يختفي ويخرج الممسوخون من القناع وهم يحملون بنادقَ حديثة، يشكلون طابورين متوازيين أمام القناع الذي يخرج منه المسؤول، يقترب من الكاتب الذي عاد الى اوراقه وانشغل بالكتابة من جديد..)

المسؤول: (ينظر الى الأوراق بطريقة تشبه ما فعله الشمر في اول دخوله، يسحب ورقة ويقرأ..) أهذا أنا..؟

(يقرأ ورقة أخرى ويصرخ) أهذا أنا..؟

(يقترب اكثر من الكاتب ويصرخ به) لماذا لا تجيب..أهذا أنا..؟

الكاتب: (لا يرد)

المسؤول: ما الذي أخرسك..؟ تملأ أوراقكَ بالأكاذيب، تحرّضُ الناسَ وتنعتني بالمهزوم… أسألكَ للمرة الأخيرة.. أهذا أنا..؟

الكاتب: (لا يرد)

المسؤول: أنسيت السنين العجاف، سني البلاد التي ساقها المخبرون وراحت تئنُّ طويلاً… نسيت لتكتبَ عني كلاما بذيئاً..

الكاتب: (لا يرد)

المسؤول: (يسحب الورقة منه بقوة) لِمَ لا ترد..؟

الكاتب: (يأخذ الورقة منه ويستمر بالكتابة)

المسؤول: (يزداد غضباً يسحب الورقة منه ويرميها بعيداً) هات هذه الورقة اللعينة، تكتبون ما يحلو لكم وتغضون أبصاركم عما فعلناه حقاً..

الكاتب: (ينظر له ساخراً) عما فعلتموه حقاً..!

المسؤول: ها أنت ذا تنطق…ظننتك أصمّاً أبكماً..

الكاتب: الزمانُ كفيلٌ بكم..

المسؤول: (ضاحكاً) قلت الزمان..؟ زماننا أم زمانكم..؟ زماننا زمان الجهاد، كنّا نجاهد في كل حين، حملنا أرواحنا على الأكف من أجلِ مَنْ..؟

الكاتب: (دون أن يلتفت اليه) قل أنت، من اجلِ مَنْ..؟

المسؤول:(بخطابية) من أجلك أنت.. وهذا الشعب المفطوم على البلوى..

الكاتب: غريبٌ أمركَ يا زمان، تدورُ وتُرجِع كلَّ الوجوه وتبدأ مشوارَكَ الآثم..

المسؤول: هذا زمانُ المكاسب، عشنا بعيدين عن أوطاننا ولا بد من قطفِ الثمار..

الكاتب: وهل بقي في الوطنِ ثمار..؟ لم يُبقِ الأولونَ شيئاً لتستمتعوا به..!

المسؤول: طواهم الزمان أولئك الذين أثقلوا علينا..

الكاتب: وستثقلون أنتم أيضاً علينا..!

المسؤول: من رحمِ الشعبِ جئنا..

الكاتب: كلهم يقولون هذا، من رحمِ الشعبِ جئنا..وحين يستمكنون يعيثون خراباً برحمِ الشعب..!

المسؤول: لسنا كذلك..جرّبنا وسترى..

الكاتب: قضينا أعمارنا ونحنُ نجرّب هذا وذاك، لم يبقَ متسعٌ في العمرِ لكي نقامر..

المسؤول: (غاضباً) رضيتم بالذلِّ والهوان، تعودتم على التصفيقِ ببطونٍ خاويةٍ وجباهٍ اسودّت من أثر الظيم..

(الممسوخون يدورون حولهما وهم يهتفون بالاشارة)

المسؤول: (مستمراً وبخطابية) تهتفون للضياع، تهتفون للضباع، تهتفون للسكاكين وهي تحزُّ رؤوسكم واذا ما جاءكم من يريد انقاذكم رفضتموه..صرختم لا بملء الفم.. لا للعز، لا للكبرياء، لا للديمقراطية..

(الممسوخون يرفعون المسؤول على الاكتاف ويخرجون من فم القناع الكبير)

الكاتب: (يجمع أوراقه ويهم بالخروج)

شمر: (يظهر من احدى عيني القناع) الى أين..؟

الكاتب: (يلتفت نحوه) حيثما أجد الطهر..

شمر: (يخرج من العين ويقترب منه) أتجدني نجساً..؟

الكاتب: من الخنازير ما تشعر انها الأطهر..

شمر: لا عتب عليك فهناك من يغيضه وقوفي يوم اجتمع القوم واختارني مولاي عمر بن سعد لأكونَ رأس حربة جيشه..

الكاتب: (هازئا) رأس حربة..؟ أنت لا غيرك..

شمر: وما كنت تظن..؟

الكاتب: لست سوى ذيلٍ معقوف، تتبع هذا وذاك من أجل حفنةٍ من مالٍ لا يزيدكَ الا طمعاً..

شمر: وأنت..؟ ألا تحب المال..؟ آتني برجلٍ لا يحب المالَ والنساء..

الكاتب: المالُ والنساء..يالفضاعتك وخستك..

شمر: كلكم هكذا، تنكرون لكنكم تقضون جل وقتكم بهاتين الاثنتين..

الكاتب: المالُ الحلال كرامة..مالٌ غير ملطخٍ بالدم..

شمر:  كل ما جنيته هو من عرقِ جبيني..

الكاتب: سل يديك كيف استطاعت ان تحفرَ بئرَ الدم..

سل أذنيكَ كيف استطاعت ان تنتحملَ أنين المذبوح على مهلٍ..

سل عينيكَ كيف رأت وجهَ النورِ وهو يشعُّ كلما غارَ سيفكَ بين اللحمِ والدعاء..

سل نفسكَ كيف استطاعت ان تتحملَ اللحظات التي نزفت فيها السماءُ دماً خالصاً..

ألم تسألها لماذا نزفت دماً خالصاً..لماذا بكت..؟

شمر: أمجنونٌ أنت.. كيف أسأل السماء..؟ بأيِّ لغةٍ أسألها..(يضحك) اطوِ أوهامكَ يا هذا..

الكاتب: ما تسميه أنت أوهاماً هي الحقيقة التي لا تريد استنطاقها..حقيقة ما فعلت وما سيفعل بك..

(اظلام)

(الممسوخون يتحلقون حول احد المقنعين ويحاولون تمزيقه بأيديهم)

اصوات: زمانٌ دخيل، وموتٌ بطيء تجذّرَ في كلِّ ركنٍ دعي..

دعيٌّ هنا..دعيٌّ هناك يجيء الينا وبين يديهِ الدماء..

(المقنع يسقط ثم ينتقل الممسوخون الى الكاتب ويحيطون به)

(المقنع ينهض/ بقعة ضوء عليه)

المقنع: (يحمل عدداً من الأقنعة ويضعها على وجه واحداً تلو الآخر)..

 أمجبرون نحن بالأقنعة..

 قناعٌ للنهار،

قناعٌ لليل،

 قناعٌ للعمل،

 قناعٌ للناس،

 قناعٌ للمسؤول،

 قناعٌ للكره،

 قناعٌ للحبِّ..

(المسؤول يخرج من القناع الكبير تحيط به حمايته)

المسؤول: (آمراً) أنت..؟

المقنع: (ينظر له)

المسؤول: اقترب..

المقنع: (ممسكاً بقناعين) بأيِّ قناعٍ أجيء اليك..؟

المسؤول: تعال بوجهك..

المقنع: وهل تكتفي أنت بوجهك..؟

المسؤول: أنت واحدٌ من العامة…اما أنا….

المقنع: (مكملاً) اما أنت فمسؤول.. أعرف، ما صنعت القنعة إلا للمسؤولين..!

المسؤول: أنتم من يجبرنا على ذلك..

المقنع: وأنتم تجبروننا عليها أيضا.. ضيّعتم البلاد وهجّرتم العباد، تزهقون الروح بلا سبب، غيّرتم قاموسَ حياتنا.. حتى صارت السرقة خدمة، والظلم خدمة، خرّبتم الدار وقسّمتم الجار، هذا سين وذاك شين وآخر نون وآخر صاد..!

المسؤول: وماذا بعد..؟

المقنع: لم يبقَ شيءٌ في رقعتكم الشطرنجيّة، نحن مجرد بيادق تتلقفها اصابعكم، تضعوننا حيثما تريدوون، مجرد جسورٍ تعبرون عليها حيث أمجادكم الخاوية، صبرنا كثيرا، حلمنا أن الآتين من النور سيغدقون علينا بالضوء لكننا ازددنا عتمة، حلمنا ان التماثيل التي شوهت مدننا ستحلّ محلها حدائق غنّاء، لكننا استيقظنا على وقع اقدامكم المتعثرة، جئتم حاملين اسم الله وأنتم الأبعد عنه، حاملين اسم الوطن وانتم من حزَّ رأسَ الوطن..

المسؤول: هذا اتهامٌ صريح..

المقنع: مثلما اتهمتم الصابرين على لظى الأمس بالخيانة، يوم كانت الكوابيس تغتال ليالينا، يقتادنا الزجرة حيث الموت على سواتر لم تحمنا.!

المسؤول: (يشير الى الممسوخون ان يحملونه، يقتربون من المقنع ويقيدون)

المقنع: هي ذات الوجوه، ذات الأقنعة…هو الزمانُ يدور…

(يحملونه ويختفون في القناع الكبير- اظلام وبقعة ضوء على الكاتب)

الكاتب: هو الزمان يدور حتى اذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا..

(اصوات رصاص تمتزج بصهيل خيول)

شمر: (يظهر من احدى عيني القناع) بئس ما تحييون..

الكاتب: بئس ما فعلت، قطع دابرك وردَّ ظلمك اليك..

شمر: أتراني أخطأت..وان كنت أخطأت فما أنا الا بشر مثلك..

الكاتب: بعد كل ما فعلت لا تدري أيّ خطأ اقترفت..؟ لو كنت فرداً لرضينا لكنك تناسلت..امتدت خطيئتك عبر الزمان، انتشرت مثل النار في الهشيم، ها أنت ذا تعود من جديد بقناع آخر، شمر آخر، تكاثرتم، شمر صار شمراء، وخطيئتك صارت خطايا كانها دبابيس في الجسد.

شمر: أرى ما لم تره أنت، الخطيئة التي أثقلت بها مسمعي ما هي الا لعبة رسمها القدر لي وحفزتني أنت وأمثالك للإستمرار فيها.. أنا (باصرار) وجه هذه الأرض..

الكاتب: وجهها الكالح..نفق مظلم أنت..استلبتم خيرها ووزعتم الشر على بيوتٍ كانت آمنة، زرعتم الفتنة واشعلتم نار الحروب في صدور الأمهات..

شمر: تلك لعبة لا تعرفها..

الكاتب: لكنني اكتويت بها..

شمر: عجيب أمركم، تضعوننا حيث نريد، تطبلون وتزمرون وتهتفون لنا ثم تشكون. أي بشر انتم..؟

الكاتب: تستغلون فطرتنا..
شمر: بل قل غباءكم.. وجبنكم..!

المؤلف: (يتركه ويذهب بعيدا عنه)

شمر: ألم أقل لك، انك لن تستطع معي صبرا.. (يضحك، يأخذ الأوراق الموجودة على المنضدة ويحاول الكتابة) كلها أكاذيب، ما تكتبون اكاذيب..أنا من يكتب التاريخ وليس أنتم..

(اظلام)

ستار

————

  البصرة

31/12/2015

Share: