المواطن بين سندان الفقر ومطرقة الفواتير


القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود، مثل يندرج في خانة الحكم، فهو حكمتنا منذ ان قرأناه في كتاب الأمثال، رغم أننا لم ندخر قرشاً ليس لأننا لا نمتلكه إنما لأن أيامنا كلها سوداء!
هذا المثل/ الحكمة صار يؤرقنا ونحن نلهث وراء لقمة الخبز طيلة سنوات الحصار التي أكلت منا العافية.. وقديماً كان أهلونا يرددون (الما عنده فلس ما يسوه فلس!) فهم يربطون قيمة المرء بجيبه، فكيف بنا نحن الذين ما امتلكنا جيوباً ابداً؟!
وقالوا أيضاً (الفلوس تطيب النفوس!) وربطوا المزاج بالفلوس أيضاً وهذا ما يؤكد كلاماً لصديق لي يعمل خياطاً في أنهم وضعوا جيب القميص في الجهة اليسرى ليكون لصيقاً بالقلب، وإذا ما امتلأ الجيب استقر القلب وإذا فرغ تعكَّر المزاج! 
ليس تواقاً للفقر، ولكن تقارير المنظمات الدولية تؤكد أن العراق على رأس قائمة الفقر، ليس بلداً إنما أفراداً.. 
(لو كان الفقر رجلاً لقتلته)، حديث لسيد البلغاء والمتكلمين يشير إلى خطورة الفقر على الإنسان.. وفي (أنشودة المطر) يقول السياب (ما مرَّ عام والعراق ليس فيه جوع!) مفارقة غريبة في بلدٍ صارت فيه الغرائب والأعاجيب حقائق! 
تشير التقارير- أيضاً- أن العراق يمتلك احتياطياً من النفط كبيراً ربما أكثر من فقرائه.. لكن الناس فيه يعيشون حالة من الفاقة.. وفي زمن ليس بعيد تبرع ديكتاتور بلدنا بمبلغ خيالية إلى فقراء أمريكا! وقبلها كان قد تبرع لفقراء أفريقيا تاركاً الناس هنا يتضورون جوعاً وهو يمدهم بخطاباته الرنَّانة في أن يشدُّوا الأحزمة على البطون لمحاربة الاستعمار والإمبريالية والصهيونية… والانكى من ذلك أنه بنى مدناً لشعوب العالم وبيوتاً في وقت كان يهدّم فيه بيوت العراقيين! 
لم ينته الأمر عند هذا الحد، فالعراق مازال غنياً وأبناؤه فقراء. 
هل زرتم بيوت (التنك)، والعوائل التي تعيش في حاويات (الزبالة)؟ هل رأيتم أبناء الحاويات وأبناء التنك؟ ما الذي ينقص هؤلاء لكي يكونوا أعزّةً في بلدهم؟ 
ذات يوم من عام 2001 وعندما كنت أعمل مصوراً جوالاً في المنطقة الشعبية المسماة بـ(الشيشان)، وهي مجموعة شقق سكنية غير كاملة في منطقة الموفقية في البصرة، كانت هناك عدة عوائل تعيش تحت سلالم تلك الشقق القذرة، ومنها ما كانت تعيش في الحاويات.. أثارني مشهد عدد من افراد سلطة ذاك الزمان بملابسهم الزيتونية وأسلحتهم الكلاشنكوف وهم يحاولون تهديد امرأة وأطفالها بالخروج من المكان الذي اتخذته سكناً.. فراغ السلم الحجري، ولأنها امتنعت فقد قذفوا بما لديها من (عفش) وهو لا يتعدى أشياء مهترئة! تحدثت معها بعد يوم من الطرد: 
• لِمَ أخرجوكَِ من المكان يا خالة؟!
– يقولون أن ابني هارب من الجيش.. 
• أصحيح ذلك؟
– إنه مسجون عندهم.. 
• لماذا إذن طردوك.. 
– يقولون أنهم يريدون أن ينظفوا المنطقة من الفارّين!!
• ألم تخافي منهم؟ 
– كيف لا أخاف منهم وهم لا يفرقون بين (حرمة) ورجل. (الحرمة باللهجة الدارجة العراقية تعني المرأة)
هذه الحكاية لم تغب عن ذهني، فقد احتفظت بها أكثر من أربع سنوات.. فهي صورة واضحة عما يعيشه العراقيون.. اليوم، بعد أن تغيّرت الصور، وانفتحت الحياة، ما الذي تغيَّر؟ 
هل تحسنت صورة الفرد العراقي؟ 
هل تحسن الوضع المعاشي للعوائل الفقيرة؟
هل مدّت الحكومة يد العون للناس؟ 
أسئلة كثيرة حملناها معاً للناس… والناس فقط!

• أسود وأبيض: 
قال بائع خضار في السوق: تسألني هل تحسنت صورتك؟ أقول لك وبثقة لم تتحسن الحالة، لا بل الغلاء هو هو، والعوائل الفقيرة ازدادت خاصة بعد البطالة التي يعاني منها الشباب… 
• ولكن الرواتب ازدادت؟ 
– مع ازدادت ولكن لمن..؟ هل تصدق أن هناك عوائل لا تستلم فلساً واحداً في الشهر وأولادها يجلسون على قارعة الطريق لأنهم لم يجدوا أحداً يتوسط لهم في أن يشتغلوا في واحدة من دوائر الدولة، بينما نرى آخرين يعملون جميعهم حتى وصل الأمر أن عائلة واحدة شُغل كل أفرادها وهكذا ترى البون شاسعاً بين هؤلاء وهؤلاء! 
قالت إمرأة: (ألا تنظر الحكومة الجديدة إلى أوضاعنا، فقد وزعت علينا فواتير الماء والكهرباء وهي تقصم الظهر.. وفوق هذا يتوعدنا المسؤولون في أنهم سيقطعون عنا الخدمة.. خدمة الماء والكهرباء ، والذي يسمع كلامهم يقول أننا ننعم بالماء النظيف والكهرباء المستمرة!). 
• وما الحل؟ 
– أن تعفي الحكومة جميع العوائل من تلك الفواتير، فمن أين نأتي (بالفلوس) وكل أولادنا لا يعملون؟ 
هل تحقق الحكومة أمنية تلك المرأة التي سجلت وسط السوق تبيع (البالات) –الملابس القديمة- وهي الفاقدة للزوج وتعيل أطفالاً خمسة؟.. أم سيضطر المسؤولون لقطع خدمة الماء والكهرباء عنها؟ (ملاحظة أن خدمة الماء تلك ليست بالصورة التي يتصورها البعض فلا خدمة ماء في كل البيوت!)

• فقر وفواتير: 
(قبلنا الفقر وأن نعيش في عوز دائم فهل يرضى عاقل أن نقبل تلك الفواتير التي تقصم ظهورنا؟) بهذه الكلمات بدأ الحاج مصطفى الملاح حديثه وهو يشير إلى قائمة الماء التي استلمتها عائلته.. وأضاف: (يا أخي أنا دفعت قائمة جاءتني قبل سقوط النظام وهذه قائمة جديدة قال لي الموظف أننا لم ندفع فواتير الماء منذ أكثر من عشر سنوات!! أتصدق ذلك.. وقال أيضاً أن الدائرة سيضطر إلى إلغاء الخدمة..!) 
ظاهرة الفواتير الملقاة على كاهل المواطن العراقي أضحت مستديمة، وهناك دوائر راحت تتبارى لجباية تلك الأموال من المواطن المسكين وحينما تعترض على الموظف المسؤول يقوم هذا بإظهار وطنيته وحميته على وطنه قائلاً: (هذه أموال الحكومة!) دون أن يراعي حقوق الدولة في تأدية واجبه بصورة جيدة وعدم التملّص من الدوام الرسمي وتقبل الهدايا والعطايا والرشاوى من هذا وذاك… 
المطلوب الآن، ولكي نحقق العمل من أجل راحة المواطن إعفاء هذا المواطن من ديون تراكمت طيلة السنوات التي خلت ونقصد بها فواتير الماء والكهرباء والهاتف، خاصة وأن كثيراً من أبناء العراق يعانون شظف العيش ومرارة المرحلة، وأن لا يبني المسؤولون أحكامهم على أساس تعديل راتب الموظف فليس كل العراقيين موظفين وهناك عوائل تشردت خلال سوات حكم النظام السابق.. ولنعتبر هذا تكريماً للعراقيين الذين ضحوا من أجل كرامتهم وعزتهم.

نشر في موقع الناس بتاريخ الأحد 5/11/ 2006

Share: