حور طين

شخوص المسرحية:

١- الأول

٢- الثاني

٣- الشيخ

المشهد الأول

المكان:

خربة، باضاءة خافتة جداً، تبدو من بعيد بعض الأشجار اليابسة، ودخان يخرج من ثقوب الأرض.. 

الأول يدخل وهو بحالة رثّة، يدور في المكان، يتأمله، غير مصدق بما يحدث.

الأول: اذهب وسترى بعينك، وستتمنى لو قتلت ألف مرة كي تسعد بالحفاوة والتكريم، أليس هذا هو قولك يا شيخ؟ ها آنذا وصلت الى المكان الذي وصفته لي، أين تلك الحفاوة التي وعدتني بها، لم ار نفسي الا في مكان هو أتعس مما كنت فيه! على الأقل هناك يوجد انترنت اقضي فيه كل وقتي، ما الذي يوجد هنا، لا كهرباء ولا وماء ولا حتى انترنت!

الثاني: (من خلف الشجرة، يضحك بصوت عال) 

الأول: يبدو أن هناك من يشاركني هذا المكان (يلتفت يميناً وشمالاً) أين أنت ايها الضاحك..؟ أيعقل ان يضحك المرء في مكان كهذا؟ 

الثاني: (ما زال يضحك)

الأول: اخرج من جحرك واخبرني بما يضحكك.. إن كنت تضحك عليّ فمن حقّك، ولكن حري بي أنا ان أضحك على نفسي (بألم) بعدما ضحك الشيخ عليّ.. 

الثاني: (يخرج من مخبئه خلف الشجرة قافزاً) قلت الشيخ..؟ سمعتك تقول الشيخ.. أنت أيضا أرسلك الشيخ الى هنا..

الأول: (ينظر له متفاجئاً) هل تعرفه؟

الثاني: ذو اللحية النتنة، والوجه الشيطاني الكالح، والفكر الصدئ..!

الأول: قلت، هل تعرفه؟

الثاني: انتظره هنا منذ سنوات، قال لي انه سيلحق بي، لكنه لم يأتِ، ليتني أمسكه بيديّ، والله سأنتف لحيته النتنة شعرة شعرة!

الأول: ها.. هو الذي اقنعك بالمجيء إلى هنا..

الثاني: ومن غير ذاك القبيح..

الأول: وكيف اقتنعت؟

الثاني: مثلما اقتنعت أنت..

الأول: خمرٌ وأنهارٌ لبن، وحور عين!

الثاني: ليس غير قمامة ورائحة تزكم الأنوف..

الأول: منذ متى وانت هنا؟

الثاني: لا أعرف، الزمن هنا متوقف، لا اشعر به، لا ليل ولا نهار، لا شمس ولا قمر ولا نساء!

الأول: وصفهنّ لي بوجوههن المنعشة، واجسادهنّ الطريّة..

الثاني: (يكمل) وقال لك ثمة غلمان ذاك أبو الغلمان الساقط!

الأول: هل أخبرك بهذا أيضاً..؟

الثاني: كل ما قاله لك أعرفه، وأعرف أنه راح يصف لك ما تشتهيه نفسك وما حرّمه عليك هناك حلّله لك هنا..

الأول: (بندم) كنت ابلهاً..

الثاني: مثلك انا، مثلك تماماً، ابلهاً وزعطوطاً!

الأول: هل هناك احد غيرنا؟

الثاني: أووه، كثيرٌ منا هنا.. (يضحك)

الأول: (يبحث في المكان) أين هم، لم أرهم!

الثاني: (ضاحكاً) اطمئن، لن تجدهم هنا، هم هناك (يشير الى الأسفل)

الأول: (ينظر الى أسفل حيث اشارة الثاني) هناك … اين؟

الثاني: في الدرك الأسفل..

الأول: وهل هناك ما هو أسفل من هذا المكان؟

الثاني: طبقة فوق طبقة.. ما دامت العقول صدئة ستكون هناك طبقات اخرى..

الأول: أظنّهم حصلوا على وعدهم الشيخ به ولم يبق لنا شيء!

الثاني: أما زلت مصدقاً بكلام ذاك الساقط..؟ وعود واكاذيب لا يصدّق بها سوى الأغبياء من مثلنا..

الأول: (ساخطاً) أنا لست غبيّاً..أنا طبيب بيطري.

الثاني: لو لم تكن كذلك لما كنت أنت الأن هنا.. تقول طبيب بيطري، ها، (يضحك) ربما الحمار الذي تعالجه هو اذكى منك..

الأول: (صارخاً به) قلت لك، لست غبيّاً.. 

الثاني: أنت مصرٌّ على انك ذكيّ.. لست غبيّاً..ها، حسناً، سأصدقك رغم اني غير مقتنع بذلك.. قل لي، إن لم تكن غبيّاً كيف اقتنعت بما وعدك به ذاك الشيخ النتن، وانت طبيبٌ بيطري؟

الأول: لكل امرئ نقطة ضعف..

الثاني: ونقطة ضعفك ما أتيت لأجله.. الحور العين!

الأول: (صامتاً)

الثاني: لا تهتم يا صاحبي، أنا مثلك، ملأوا راسي بتلك الوعود، منعوني من خمر الدنيا فقلت لأشربه هنا، على الأقل لا أحد يمنعني، والندماء كثيرون!

الأول: لا تعتبرني نديماً لك.. أنا لا أشرب الخمر!

الثاني: وأين هذا الخمر الذي أزهقت روحي من أجله..

الأول: (يضحك)

الثاني: اضحك يا صاحبي، هكذا افضل لك من ان تبقى طيلة موتك عابس الوجه..

الأول: (مستغرباً) طيلة موتي كيف؟

الثاني: إن كنت تظن أنك ما زلت حيّاً فأنت واهم.. حياتك تركتها هناك!

الأول: لكنني لم أمت..

الثاني: ألم تقل لي أن ذاك النتن قد أغراك بوعوده، وجئت راكضاً من أجلها..

الأول: لم اضغط على زر التفجير!

الثاني: هم ضغطوا عليه نيابة عنك (يضحك) هذا ما يفعلونه دائماً حين يتأكدوا أن ضحيتهم متردد!

الأول: (صامتاً)

الثاني: عليك بتصديق ما قلته لك. هذه هي الحقيقة، وقد مررت بها انا ايضاً..

الأول: أيّ حقيقةٍ أكثر من هذا المكان الخرب المظلم..

الثاني: حقيقة موتك!

الأول: وما حقيقة موتك أنت؟

الثاني: كلنا ميتون، أتصدّق، وانا هناك (يشير الى البعيد) كنت يائساً من كلّ شيء، وكنت اتمنى أن أجد حياة أفضل، لكنني ما كنت اتوقع أني سأكون في هذه الخربة الخانقة.

الأول: والآن، ما الحل؟

الثاني: علينا ان ننتظر..

الأول: ننتظر؟ (يصمت قليلاً) ماذا ننتظر..؟

الثاني: (ضاحكاً) سيأتي من يصلخ جلدينا، ويرينا ما لم نره هناك..

الأول: ما رأيك في أن نفر من هنا، أعتقد أنه الحل الأفضل..

الثاني: (هازئاً) نحن خارج المجرة يا طبيب الحيوانات، الى أين نفر، الى المريخ؟

الأول: هل تظن أنه سيلحق بنا..؟

الثاني: من..؟

الأول: الشيخ..

الثاني: (ضاحكاً) سيغري كثيرين، وسينعم بحياة ماجنة..

الأول: أيّ غبيّ سيتبعه بعد الذي لقيناه..

الثاني: ها.. تأكدت الآن بأنك غبيّ..؟

الأول: (بندم) ليتني أعود لحياتي!

الثاني: أي حياة تريد العودة إليها، وهل تسمي تلك حياة؟.. ظلم، وقهر، ولصوص، واعتقالات، وخطف، وتهجير، هل تسميها حياة..؟

الأول: لم اكن مثلك..

الثاني: لكنك الآن مثلي.. لا فرق ما بيني وبينك، أنت قَتَلتَ وقُتِلت وأنا مثلك.

الأول: هل تصدّق؟

الثاني: بماذا..؟

الأول: كنت مخدراً، سرت في الشارع ولا أدري الى أين..

الثاني: (ضاحكاً) ربما كنت تبحث عن حمارٍ تعالجه، او دجاجةٍ حشرت بيضتها في…..(يشير الى مؤخرته)

الأول: (ينظر له غاضباً)

الثاني: ها… اكمل، اكمل ولن اقاطعك..

الأول: لو لم يخدرونني ما كنت انا هنا الآن..

الثاني: لن تستطيع ان ترفض لهم طلباً بعدما تورطت معهم.. اسألني انا، كنت اعمل عتّالاً في السوق، لا علاقة لي بأحد، أعمل نهاراً واذهب للبيت منهكاً، لا زوجة ولا أولاد، ولا اقارب.. ذات يوم طلب مني ذاك الشيخ النتن أن أحمل له متاعاً الى المسجد، ذهبت على أمل أن أحصل على أجرٍ جيد فالمكان بعيد جداً.. أنهيت عملي، وطلب مني أن أبقى معه في المسجد، بقيتُ وليتني لم ابقَ…

(اظلام)

المشهد الثاني

في مسجد قديم، الثاني يجلس مع الشيخ

الشيخ: ما لي أراك مهموماً يا ولدي، قل لي ما الذي يشغلك ،ربما استطيع أن أقدم لك عونا..

الثاني: لا شيء يا مولانا، ما يشغلني قد يشغل كثيرين..

الشيخ: قل لي حاجتك، وان شاء الله ساعينك..

الثاني: أعيش في منزل للإيجار، لا شيء عندي الا تلك العربة وهي مؤجرة ايضاً.. 

الشيخ: (مقاطعاً) ألم تتزوج بعد؟

الثاني: الزواج يحتاج إلى مال..

الشيخ: هذا أمر بسيط يا ولدي، هناك كثير من المؤمنات لا يطلبن الا العيش في ظل رجل مؤمن..

الثاني: من ترضى أن تعيش في وضع كوضعي..

الشيخ: ان كان هذا الأمر يشغلك، فاتركه لي.. 

اظلام

المشهد الثالث

في المكان الخرب

(الأول والثاني في نفس المكان)

الثاني: تركت امري له، وبدلاً من أن يزوّجني من انسيّةٍ أرسلني الى هنا..

الأول: (ساخراً) أرادك أن ترتاح من العربة والحمل الثقيل..

الثاني: وحمّلني ما لم استطع حمله!

الأول: هذا يعني أنك نادم..

الثاني: وما نفع الندم بعد كسر الجرّة.. كنت أظنّهم يستغلون من يعاني من ضنك العيش، ويغرونه بما يريد، لكنك خيّبت ظني.. فأنت طبيب ويبدو عليك أنك مثقف..

الأول: طبيب ومثقف.. نعم، لكنني انسان، ولكل إنسان نقطة ضعف.

الثاني: على الأقل أنت في وضع أفضل مني.. اخبرني كيف اوصلوك الى الهاوية..

الأول: ينفذ الشر اليك من حيث لا تحتسب!

الثاني: (ضاحكا) كنت أداة للشر، دفعك الشيخ النتن.

الأول: هو الشر بعينه، لم أكن اعرفه، جاءتني شابة بقصد معالجة قطتها، راجعتني مرتين، تقرّبت مني في المرة الثانية..

الثاني: (بسخرية) هي ذي نقطة ضعفك.. النساء!

الأول: كل شيء صوّروه، بالصورة والصوت، ولم يمضِ اسبوع حتى جاءني الشيخ…

اظلام

المشهد الرابع

عيادة بسيطة، صور لحيوانات على الجدار..

الشيخ في العيادة يقف أمام الأول

الشيخ: (مهدداً) لاننا نخاف على سمعتك، ونخشى عليك من أشقائها الأربعة ان سمعوا بأمرك، جئنا لنتفق معك ونخلصك منهم..

الأول: هي من جاءت، لم استطع ابعادها..

الشيخ: (بخبث) لم تستطع ابعادها أم نزوتك قادتك اليها..؟

الأول: والله يا شيخ حاولت أن ابعدها عني..

الشيخ: ولم تنجح.. ها؟ لم تنجح في ابعادها عنك، أليس كذلك..؟ (يمسك بيده قطعة ذاكرة الكترونية) وماذا تقول عن هذه التسجيلات.. لا تقل انها مفبركة، صورتك وصوتك فيها بلحمك وشحمك.. (يضحك بسخرية) أتريدني أن اطبع لك صورك وأنت ……

الأول: أرجوك يا شيخ، أنت رجل تخاف الله، والله يامرنا بالستر.. 

الشيخ: ليس أمامك إلا ان تقبل بما عرضته عليك.. هذا هو المخرج الوحيد لك..

اظلام

المشهد الخامس

في الخربة، الأول والثاني في مكانهما

الثاني: وقبلت العرض..

الأول: (يهز راسه ايجاباً) على مضض، وصار الذي صار، وليته لم يحدث.. ليتني قبلت بالعار من ان اكون هنا في هذا المكان الخرب.

الثاني: لا تبتئس يا صاحبي، ركبنا ذات المركب، وتجرعنا سم أفعالنا، ولن نستطيع أن نصحح الخطأ.

الأول: ليت النوم يصحح ما فات..

(صوت ريح قوية، برق شديد، الأول والثاني ينتابهما الفزع، يركضان هنا وهناك)

الأول: (فزعاً) ما الذي يجري بحق السماء؟

الثاني: ما هذا البرق الذي يكاد ان يعميني..

الأول: قف هنا وسنرى..

(دخان كثيف، يخرج منه الشيخ بملابس رثة)

الأول: ٠ينظر له غير مصدق) ذاك هو.. ذاك هو..

الثاني: أيعقل ان يكون هو..؟

الأول: (يركض باتجاه الشيخ ويحاول مسكه بقوة) ها قد جئت بقدميك لحتفك..

الثاني: (يركض خلفه ويحاول تخليص الشيخ من بين يدي الأول) اتركه يا رجل..

الأول: لن اتركه قبل ان أشفي غليلي..

الشيخ: (بعد ان يتخلص منه) من انت ايها الرجل؟ هل اعرفك..

الأول: أتنكر معرفتك بي..؟ أتنكر ما دفعتني إليه..؟

الشيخ: (بصوت عال) من أنت يا رجل..؟

الثاني: ألا تعرفه؟ الطبيب البيطري الذي ورطته بخطتك الخبيثة، هل نسيته..

الشيخ: (ينظر له بذهول وكأنه يتذكر)

الأول: ( يحاول ان يلكمه بينما الشيخ يهرب فيتبعه) تعال أريك ما فعلته بي أيها النجس.. (يمسك به) هل تذكرتني أيها الخبيث..؟

الثاني: (يمسك يد الأول ويمنعه من ضرب الشيخ) قلت لك اتركه..

الأول: دمي يفور وانت تمنعني.. هذا الخبيث يتناسى ما فعله بنا..

الشيخ: أنا لا أتذكر شيئاً، والله، ولا اتذكرك انت ايضاً (الى الثاني)

الأول: أنا لن انسى ملامحك هذه يوم هددتني واستغليت ضعفي..

الشيخ: صدّقاني، أنا لا أتذكّر شيئاً، كل ما يقوله هذا الرجل لا أتذكره..

الثاني: لا يمكنك أن تنسى ما فعلته بنا وبآخرين مثلنا، تستغلون حاجاتنا لتلقون بنا في المجهول.. أنت وليس غيرك، لولاك لما كنا هنا..

الأول: جاء الوقت الذي اقتصّ فيه منك ايها الخبيث..

الشيخ: حقاً، أنا لا أتذكّر شيئاً..

الأول: وأنا لا أصدقك..أعرف خبثك ومكرك..

الشيخ: من أنتما، لا أتذكّر أنني التقيت بكما من قبل..

الثاني: سواء تذكرت أم تدّعي النسيان، فقد دفعنا ثمن الجرائم التي اقترفناها، أنا واحد من الذين اغريتموني بحياة أفضل، وكنت يومها غبيّاً، لحظة وافقتكم..

الأول: سترى بعينيك كم أنت كاذب، لا حور عين ولا أنهار من الخمر، ولا حتى سرير ننام عليه، آهٍ لو حافظت على سريري في منزلي بدلاً من قصر القشّ الذي وعدتنا به.

اظلام- ستار

الخميس ٢٠١٩/١٠/٣ البصرة

Share: