رؤى درامية للكاتب عبد الكريم العامري في مسرحية برج الشيطان بقلم: د. طالب هاشم بدن
عبد الكريم العامري كاتب وأديب بصري تميز بتنوع نتاجه الدرامي وولوجه في خفايا وسراديب الواقع المظلم المليء بالمطبات والتعرجات مزيحاً الستار عن رؤى معرفية في تعرية المجتمعات الهشة .
يمدنا الكاتب العامري بفيض من المسرحيات الهادفة التي كتبت بلغة بسيطة من الممكن للقارئ العادي تلقفها بسلاسة ومعرفة ما يدور في ثناياها على وفق القارئ المتعلم لا القارئ الفاحص النبه المشخص، لذلك إختلف كاتبنا في موضوعات مسرحياته وتنوع نتاجه الدرامي في تناوله جوانب حياتية ساعدت على بلورة إشتغالات من أرض الواقع حدثت ولا زالت تحدث . وهي إضافة نوعية مهمة في حركة الابداع المسرحي ، وضمن السياحة المعرفية لكاتبنا المبدع اتخذت مسرحية ( برج الشيطان ) أهمية في أنها تسلط الضوء على مرحلة مهمة من المراحل التي مر بها بلدنا العراق إت سمت بالدمار والموت وتجنيد ضعاف النفوس من أجل القتل لا لشيء وإنما لطمس الهوية وإثارة الطائفية عبر التفخيخ والتفجير . إذ اختار الكاتب شخصياته بعناية ودار حوار مهم بينها تجلى في شخصية ( الرجل ، الشاب ، الخطيبة الافتراضية ) وعبر هذه الشخصيات يعرفنا الكاتب على حوادث جرت وتجري استمدها من الواقع التي صٌنّفت المسرحية على غرارها . استخدم المؤلف وسائل اقناع ربما تكاد تركز على موضوعة الجهاد وعلى الرغم من ضعف الحيلة لكنه اراد من خلالها ضخ عدد من الحوادث والجدليات التي تعتور تلك الحقبة بما فيها من عنصر مهيمن على الاحداث التي تدرجت في الحدوث، إذ يرينا شخصية (الرجل) وهو يحاول إيجاد وسائل اقناع من أجل اغراء الشاب والقيام بواجب جهادي – من وجهة نظره- وتنفيذها الحتمي على جموع لا حول لهم ولا قوة كل ما في الامر إنهم ينتمون إلى مذهب معين ممسكاً عن الافصاح عن كينونة وماهية هذا المذهب ولماذا وما الداعي، ولربما كل هذه التساؤلات يطرحها المتلقي من أجل الوصول إلى سبب القتل الذي حفلت به حوارات المحرض الاساس (الرجل) ومحاولة رسم الخطوط العامة له بحجج وذرائع عدة. إلا إن كاتبنا (العامري) يحاول إضفاء شيء من الاثارة والمتعة في تحريك المسرحية عبر إدخالشخصية (الخطيبة) الشابة التي تنتظر الاقتران بالشاب الذي تعلق أمله بها على الرغم من إن الكاتب يبقي تلك الشخصية غير ظاهرة وجعل منها الملاك الذي يأتي في أوقات أختارها كتعبير عن أستراحة بين الفصول والمشاهد التي غابت عن المسرحية إذ ان المسرحية لم تبوب على الشاكلة تلك وبقيت تسير في حوارات تكشف عن تداخل الشخصيات وتفصل بينها (عتمة، دخول مفاجئ للشخصية، خروج شخصية بعد اختفاءها في الظلام) في محاولة للاستغناء عن حركة المشاهد وتراتبية الفصول، وما خدعة دخول الجنة والحواري إلا هالة رسمها الرجل من أجل الاقناع، وقد حمل النص مفارقة بين حب الشاب لشابة انتظرته سنين وعقد الامال على اللقاء بها كزوجة، وبين مصير يفرضه عليه القدر يؤدي به إلى نهاية وفراق أبدي غيرت مجرى حياته بالكامل وحالت بينه وبين من يحب، وربما أراد الكاتب من شخصية الشابة حب الدنيا وحلاوتها مقارنة بانتحار الذي لا يحمل عنواناَ معلوماً سوى الموت،إذ تتجلى حركة حبكة الصراع في هذا الاتجاه وتنمو تدريجياً عبر مراحل وشخوص المسرحية فمن جانب يمارس الرجل ضغوطه ووسائل اقناعه للشاب وتنفيذ مهمة لا ينتمي لها، وجانب آخر الحب الذي هو نقيض الموت وما يطرح من قتل ودم . بعد هُنيهة يترك كاتبنا مجالاً تجسد في سياحة الشاب عبر تفكيره بحبيبته يتأملها وفي نفس الوقت يتلمس حزام الموت الذي أحاط به وتتداخل في ذات الوقت أصوات ضحكات خطيبته مع موقف الموت مشيرة الى طول الانتظار، وربما يحيلنا الكاتب إلى ان الموت حياة والحياة موت تداخلا في شخصية وضعها من أجل الايحاء لشيء واقع لا محالة، موعده الخميس وهي إحالة موضوعية في ان الخميس نهاية الاسبوع ولربما نهاية حياة الشاب الذي يأمل الزواج وهنا الزواج تناسل وتكاثر وقيمة عليا بقصد البقاء غير المتحقق. ففي تداخل الاحداث وتراكيب الصور الدرامية وانتقالاتها مكانياً يظهر الرجل من العتمة طالباً من الشاب وقت ومكان تنفيذ الواجب الجهادي المناط به (سوق، شارع اكتض بالمارة، متجر ) اذ يخاطبه قائلاً (اختر سوقاً مزدحمة، واطلق روحك وسط الاجساد، كلما كثر القتلى كنت الاقرب الى الله). وكأن الامر قد حسم في تنفيذ الامر، وهي مهمة عسيرة على شاب في مقتبل العمر يريد الحياة وابتعد عن لغة الموت والدم .
إن طبيعة الاحداث الواقعية تشير الى حقبة انتشرت فيها الفتن وغاب فيها الرادع الامني ووجد الارهاب أرضية رخوة من أجل تنفيذ أجنداته التي عصفت ببلدنا بعد 2003 وما واكبها من أحداث اخذت تأكل الاخضر مع اليابس، بعد تصارع المافيات واستيلاء عدد غير قليل من المليشيات على مقدرات وامكانات بلد يعاني ضعفاً وانكساراً في كل مفاصل مؤسساته اراد كاتبنا تناول تلك الحقبة وتسليط الاضواء على ما جرى في ذلك الزمن، راح ضحيتها ابرياء لا ناقة لهم فيها ولا جمل، كل ما في الامر إنهم ينتمون إلى مذهب تعايش مع باقي اطياف الشعب على حب ووئام منذ عقود، لكن يد الشر ارادت زرع الفتنة فيما بين الشعب الواحد بشتى الطرق. عبر سلسلة من التفجيرات والمفخخات التي لا تفرق بين طفل وامرأة وشيخ… ولم تتوان في إغراء مريض النفس والطفل والمجنون في تنفيذ الدمار وزرع الحقد والبلبلة ، مستغلة الظرف الصعب وفقدان الامن والامان ، إذ ظهرت جماعات وانتماءات وقاعدة وغيرها ووجدت حواضن تلبي طموحها وأغراضها، وجدت ضالتها من اجل التخريب والقتل. وهي محاولة جادة ورؤية درامية مهمة استطاع الكاتب من خلالها بناء هرم قمته مشكلة وقاعدته مشكلة ان لم يتخلص منها الشعب فستبقى جاثمة على صدور العديد ويتغذى عليها الحاقد والمغرض، وفي نفس الوقت هي تعرية للاجهزة الامنية ونقد لاذع لما تعانيه من هزال واختراق وهي غير قادرة على كشف الشيطان وتوابعه – ان لم تكن غضت الطرف عنه – حتى وجد الطريق معبدة في إزهاق الارواح في كل زمان ومكان، إذ لجأ الكاتب إلى طرح رؤاه الفنية على لسان شخصياته (الرجل، الشاب، الخطيبة) على وفق آلية إظهار المواقف وتباينها مازجاً ضحكات وكركرات بين حين وآخر بقصد الاثارة والتشويق وكسر الايهام، مبتعداً عن الحركة المشهدية في فصل الاحداث مستعيناً بخبرته وتجاربه الابداعية في رسم الصراع والسير به ضمن معالجات درامية شهدت انتقالات وطفرات ابداعية جلية، ففي العتمة والاختفاء هواجس وأحلام وغموض وكلمات لا يفصح عنها النص بشكل سردي اراد من المتلقي قراءة ما بين السطور والبحث عن (الكيف والمتى) عند حدوث الانتقالات وهي مرحلة مهمة من مراحل بناء النص المنطوق والمسكوت عنه، حتى ظهور الجانب العاطفي المرافق للاحداث ووضع مبررات لتلك الحوادث ولو بشكل صوري خيالي يستعين به كاتبنا من أجل البناء الحبكي المنتظم وعشق ممنوع الوصال غير مكتمل الملامح يتجلى في قول خطيبته (قلت لك من قبل لن تنال شيئاً قبل الزواج الرسمي) وهو لقاء هلاميلم يحدث ولم تتبين صورته الواضحة بفضل شخصية شاركت في البناء الدرامي و لم تظهر على أرض الواقع حتى نهاية الاحداث. غير إن الكاتب يحاول جاهداً إيجاد مبرر للمتلقي في اختياره الشاب دون غيره بوصفه المفعم بالحيوية وقد قتلوا شقيقيه ظلماً وما عليه إلا أخذ الثأر من قتلته، إذ حاول الرجل الشيطان الصاق التهمة الى فئة دون غيرها؛ لكن الشاب الذي يمثل مرحلة الوعي رده قائلاً (الامريكان قتلوهما) الامر الذي شكل صدمة للرجل وتذهب مساعيه هباءً منثوراً وبعد جدال وصراع محتدم ينادي الرجل الشاب بقوله (اسمع يا ولدي .. هذا الحزام الناسف المشدود في صدرك لن تستطيع خلعه، لا تجعلنا نفجره نحن بك) وربما اراد الكاتب في الحزام هو الهم الذي جثم على صدور العراقيين وصاحب مسيرتهم منذ الخليقة الى يومنا هذا، وفي هذا الحوار تتجلى ذروة الصراع وانفراج الازمة بعد رفض الشاب تنفيذ الامروهو يقول (افعل ما شئت فهذا كان يكفر عن يوم قادتني فيه قدماي لبرج الشيطان هذا .. ) وفي الختام يتعالى صوت انفجار ممتزجاً بأصوات صراخ وسيارات الاسعاف لتعكر صفو حياة لم تتضح معالمها بعد نحو القادم المجهول …
المصدر: مجلة الفرجة فى: نوفمبر 22, 2020
اترك تعليقا