آدمي 2020

شخوص المسرحية:

الرجل

الضابط

القاضي

نادل المقهى

مجموعة شرطة

المشهد الأول

(شارع في مدينة عصرية تختلف كثيرا عن مدننا، شوارع متداخلة، أضواء مبهرة، سيارات تطير بمسارات تظهر بوضوح مثل خيوط مضيئة. الرجل نائم على سرير قديم في وسط الشارع.. صوت من مكبر صوت يُسمع)

الصوت: الى جميع وحدات حفظ النظام والقانون في المسار 958 ثمة تجاوز حاد لم تعهده المقاطعة. الأقمار الاصطناعية تظهر أن آدمياً يتجاوز على المسار. على الوحدات القريبة رفع التجاوز واعادة النظام الى ما هو عليه. اكرر (يكرر ذات النداء)

(ضابط بملابس تشبه الى حد بعيد زي رواد الفضاء مع ثلاثة من أفراد وحدة حفظ النظام والقانون يصلون مسرعين، يقفون حيث ينام الرجل)

الضابط: (بحذر يتقرّب من الرجل ويلكزه) أنت.. أنت.

الرجل: (لم يهتم لأمره، يغيّر في وضعه الى الجانب الآخر)

الضابط: (يلكزه بقوة) أنت أيها الآدمي ألا تسمع؟ (يلكزه عدة مرات) استيقظ ايها الآدمي.

الرجل: (يغطي وجهه بالشرشف دون ان يهتم)

الضابط: يبدو أنك ترغب في ان تهان. خذ هذه (يضربه بعصاه بقوة)

الرجل: (يستيقظ فزعا) آه. آه. (يفرك مكان الضربة بيديه، ينظر الى الضابط مستغرباً ويحدّق بأفراد حفظ النظام والقانون) من أنتم؟

الضابط: (ساخرا) من نحن؟ ألا تعرف…؟

الرجل: كأنكم رواد فضاء لكنكم تختلفون عنهم. (يحدّق بهم كثيرا) كيف دخلتم غرفتي (مستدركاً) كيف دخلتم داري؟

الضابط: دارك؟ أين هي دارك؟ لا تقل ان هذا المسار هو دارك!

الرجل: أي مسار؟ (يحدّق بالشارع) ياه هذا شارع. حقّا هو شارع.. لكنني في داري.

الضابط: أنت آدمي متجاوز على النظام والقانون.

الرجل: في هذه اتفق معك. انا متجاوز، صحيح. فقد بنيت غرفتي تجاوزاً بعدما مللت من المطالبة بقطعة أرض. خدمت الدولة أربعين عاماً ولم أحصل على دار ما الذي تريدني أن افعل. تجاوزت. حالي حال كثير من الذين بنوا بيوتهم في أراضٍ اختاروها!

الضابط: أنت تقر وتعترف بأنك تجاوزت على النظام والقانون أيها الآدمي.

الرجل: قلت القانون؟ أي قانون يا سيدي؟ ذاك الذي فصلتموه على مقاساتكم.

الضابط: (بعصبية) كن مؤدباً يا آدمي. لا أحد يتجرأ على القانون. القانون في هذه المقاطعة فوق الجميع!

الرجل: (يضحك مستهزئاً) القانون فوق الجميع. قرأت هذه الجملة الفارغة في كل السيطرات والدوائر الحكومية التي تهدر حق المواطن.

الضابط: من أين جئت بهذه الجرأة؟ الآدميون في هذه المقاطعة يتمتعون بكل الحقوق. لا أحد يهدر حق أحد هنا يا آدمي.

الرجل: أنا حسن، اسمي حسن. ارجوك اعرف انني آدمي لكن لي اسم واسمي حسن لا تنادينني الا به.

الضابط: لا اسماء للآدميين في هذه المقاطعة. الاسماء انتهت منذ زمن بعيد. هنا لا ننادي احداً الا بالآدمي مقترناً بالرمز الخاص به. (يقترب منه هامساً) ما هو رمزك أيها الآدمي؟

الرجل: لا رمز لي ولا اسم حركي. لم أنتمِ الى أي حزب كي يختاروا لي رمزا او اسماً حركيّاً. أنا انسان بسيط اعيش في غرفتي هذه (ينظر هنا وهناك) أقصد غرفتي التي كانت هنا، لم استخدم الانترنت ولا يوجد لدي هاتف خلوي او ما ستر كارد كي احتاج لرمز.

الضابط: (مستغرباً) ما هذا الذي تقوله ايها الآدمي. تلك مفردات لم اسمع بها من قبل. كأنك آتٍ من زمن آخر.

الرجل: (ينظر لهم بذهول ثم ينظر فيما حوله)

الضابط: من أنت أيها الآدمي؟ وما هو رمزك؟ (يخرج جهازاً من جيبه للتحقق من الرموز يضعه أمام وجه الرجل ليستطلع معلوماته) ما هذا بحق السماء! لا معلومات عنك ولا رمز.

الرجل: (باستغباء) ألم أقل لك. لست من اولئك الذين يحتاجون الرموز فأنا واضح. واضح جداً.

الضابط: أي وضوح هذا؟ لم ار اي شيء واضح فيك. لا معلومات ولا رمز. جئت لأضبط مخالفتك للنظام والقانون وها آنذا أمام أمر آخر. عليك ان توضّح لي من أنت. (يفكر قليلاً) لا اعتقد أنك جئت من كوكب آخر لأن هيأتك تدلّ على أنك آدمي ولست منهم.

الرجل: قلت لك يا سيدي أنا انسان واسمي حسن. لم اقترف في عمري أي مخالفة الا إذا اعتبرتم الغرفة التي بنيتها تجاوزاً فهذا أمر آخر لأن حالي حال كثير من الناس الذين بنوا بيوتاً في الأراضي الفارغة حتى أصبحت هنا احياء كاملة باسم بيوت التجاوز.

الضابط: (مستغرباً) متى حدث ذلك؟

الرجل: لم يتوقف يا سيدي. ما زال الأمر مستمراً. كل من لم يمتلك داراً بنى داره في الأراضي الفارغة، وهي كثيرة في بلادنا. صحيح ان الحكومة قد أمرت بتهديم بعض تلك البيوت، الا أنها لم تهدم كل البيوت.

الضابط: في أي مقاطعة حدث هذا؟

الرجل: وأبشرك أن كثيراً من أفراد الحكومة قد استغلوا نفوذهم، وراحوا يقطعون أوصال البلاد، ويغيّرون في عائدية العقارات، ويسجلونها بأسمائهم، واسماء ذويهم.

الضابط: يا للهول! أنا لا أصدقك. كلامك هذا غير صحيح، وسيلقي بك في التهلكة. افراد مجلس مقاطعتنا الحكومي أنقياء لا يستغلون اي نفوذ لهم حالهم حال أي آدمي. اسمع أيها الآدمي أنا سجّلت لك كل ما قلته، وعليك اثبات هذا أمام مجلس المقاطعة.

الرجل: (يعدّل في جلسته) ألست ضابط شرطة؟ هذا واضح من اسئلتك. أنت ضابط شرطة كيف لا تعرف هذا؟ أتريدني ان أحدّثك عن الشرطة. اووه. حدّث ولا حرج!

الضابط: (مستغرباً) لم افهمك. ما معنى هذا؟

الرجل: ما الذي تتوقعه يا سيدي، وأنت في البلاد العربية؟

الضابط: (باستغراب) بلاد عربية؟ أين تقع هذه البلاد؟ هل هي مقاطعة مثل مقاطعتنا؟

الرجل: ما شاء الله. يبدو أنك فقدت الذاكرة.

(صوت يصدر من الجهاز بيد الضابط)

الصوت: ما الذي يحدث؟ أرسل تقريرك في الحالة.

الرجل: (يشير الى الجهاز الذي بيد الضابط) هذا يعنيني. أليس كذلك؟

الضابط: ومن غيرك أنت بعدما اخترقت النظام والقانون في مقاطعة لم تشهد مثلما فعلت أكثر من ألف عام.

الرجل: (ضاحكاً) ألف عام؟ معقولة! ألف عام لم يخترق القانون أحد. ما الذي تقوله لأبي سالم أو الحاج عبد السميع أو غيرهم. يا سيدي أي ألف عام، قل كل دقيقة ثمة هناك من يقم بما قمت به أنا. أنت في بلد عربي يا سيدي ولست في المدينة الفاضلة.

الضابط: لقد كررت هذا الاسم كثيراً.

الرجل: أي اسم يا سيدي؟ اسمي؟ لم اكرره الا مرتين.

الضابط: ليس هذا انما بلد عربي. ما الذي تقصده؟

الرجل: بلد عربي. ألا تعرفه؟ ألم تدرس الجغرافيا في مدرستك؟

الضابط: (مستغرباً) مدرستي؟ ما هي مدرستي؟

الرجل: مدرستك ألا تعرفها؟ لا تقل لي أنك لم تدخل المدرسة.

الضابط: هل هي مقاطعة اخرى؟

الرجل: المدرسة يا سيدي صفوف ومدرسون وطلاب ودروس وامتحانات ونجاح ورسوب. تصوّر يا سيدي في الصف الخامس رسبت بثلاثة دروس، الرياضيات وانا أكرهها جداً والجغرافيا لأني لا أستسيغ المعلم فهو جاف في تعامله معنا والإنجليزي لأن المدرسة لم توفر لنا المنهج والعربي أيضاً. رسبت بالعربي. تصوّر رسبت في درس العربي! يومها شدّني والدي من ساقيّ ووضعني تحت الشمس خمس ساعات. هذه هي المدرسة.

الضابط: (ما زال باستغرابه) هذا شيء أشبه بالتأهيل.

الرجل: هناك مديرية لتأهيل المعاقين لكنها ليست مدرسة.

الضابط: ما هذه المفردات التي تذكرها؟

الرجل: لم أقل ما لا يعرفه عامة الناس.

الضابط: (يلتفت الى أفراد وحدة حفظ النظام والقانون) هل فهمتم شيئاً مما يقوله هذا الآدمي.

(افراد وحدة حفظ النظام والقانون يشيرون برؤوسهم انهم لم يفهموا شيئاً)

الضابط: (الى الرجل) أرأيت. لم يفهموا منك شيئاً. والآن (الى أفراد الوحدة) خذوه ربما يستطيع مجلس المقاطعة ان يفك ما لم نستطع ان نستخرجه منه.

(أفراد وحدة حفظ النظام والقانون يقتربون من الرجل ويقيدونه)

الرجل: (منتفضاً) ما الذي فعلته لكم، اتركوني، انا مواطن صالح. لست مثل الناس الذين يسبّون الحكومة صباحا ومساء.

الضابط: (قبل خروجه يلتفت نحو الرجل) ها قد عدت لمصطلحاتك غير المفهومة. من أنت ايها الآدمي. (يخرج)

(افراد الوحدة يسحبون الرجل)

الرجل: (وهو في طريقه للخارج) قلت لكم أنا مواطن صالح لا يهمني ان فهمتموها او لا.. انا مواطن صالح!

اظلام

المشهد الثاني

(في غرفة كأنها علبة الكترونية، جدارها عبارة عن لوحة الكترونية بأزرار مضاءة. الرجل يجلس قلقاً، ينهض من مكانه ويقترب من شاشة صغيرة تشبه الى حد بعيد الشاشات التي تعرض ما تلتقطه كاميرات المراقبة، أحد افراد وحدة ضبط النظام والقانون يظهر في الشاشة، الرجل يحدّق به)

الرجل: هيه. أنت. ايها الشرطي. هل تسمعني؟ اخرجوني من هنا. حشرتموني منذ يومين ولم يسأل عني أحد. أنت، أيها الشرطي. هل تسمعني. أنا جائع. أكاد اموت عطشاً. أخرجوني من هذه العلبة. ما الذي فعلته لكم كي تضعوني هنا. لست الوحيد الذي بنى له غرفة تجاوز. هناك كثيرون غيري. ايها الشرطي تعال وأخرجني من هنا. هل أنت اصم؟ إذا كنت تراني أومئ لي بيدك. (مع نفسه) ما هذا؟ لم يكلف ذاك الشرطي نفسه بالنظر لي. (يصرخ) اخرجوني من هنا. أرجوكم. أنا اختنق. خذوا الغرفة التي بنيتها. هدّموها. أعدكم أني لن اتجاوز ثانية. سأعيش في العراء.

(صوت من مكبر الصوت)

الصوت: أيها الآدمي. عليك بالتزام الصمت.

الرجل: (يحاول ان يجد مصدر الصوت) ها.. هذا صوت. من اين يأتي؟ من هنا.. (يشير الى جهة) الى من هناك (يشير الى جهة اخرى) اسمع ايها السيد ان كنت تسمعني ارجوك أخرجني من هنا.

الصوت: لا مكان للموبوئين في مقاطعتنا.

الرجل: لست موبوءاً. أنتم تكيلون عليّ التهم. لست بالسوء الذي تظنون. أنا رجل صالح، قلتها لكم ألف مرة. واكررها مرات. لا أحد هنا يفهم ما اقول، ولا افهم تصرفاتكم معي. تدّعون ان مدينتكم لا تهين بشراً فما الذي تسمّون ما تفعلونه بي؟ كل ما في الأمر بنيت غرفة واحدة ولم أبنِ داراً مثلما بنى الآخرون. لماذا أنا هنا فيما الآخرون يتمتعون في الخارج؟ هل سمعتني يا هذا؟ أنا ظمآن، احتاج للماء، أكاد أموت عطشاً.

الصوت: أمامك لوحة تحكم استخدمها لطلباتك.

الرجل: (مستغرباً) أخبرتكم بما اريد. أريد ماء.

الصوت: (يكرر) أمامك لوحة تحكم استخدمها لطلباتك.

الرجل: (ينظر الى اللوحة التي أمامه مستغرباً) لوحة تحكم؟ أتعني تلك الأزرار؟ كيف استخدمها لطلباتي؟

الصوت: لديك ثلاث محاولات ان اخطأت فعليك اعادة العملية.

الرجل: لا أريد ان احاول. اعطوني ماءاً فقط.

الصوت: (يكرر) امامك لوحة تحكم استخدمها لطلباتك. لديك ثلاث محاولات ان أخطأت فعليك إعادة المحاولة.

الرجل: أقول لك عطشان.

الصوت: عطشان! لا توجد هذه المفردة في قاموسنا.

الرجل: ألم تشعر بالعطش من قبل؟

الصوت: (يكرر) لا توجد هذه المفردة في قاموسنا.

الرجل: (متضجراً) أووه. ما هذا؟ وما هو الذي موجود في قاموسكم؟ كيف أفسّر لك هذا؟ (يفكر قليلاً) ها، عطشان يعني أريد ماءاً. احتاج للماء. لا تقل لي أنك لا تعرف الماء أيضاً؟

الصوت: (يكرر) لا توجد هذه المفردة في قاموسنا. امامك لوحة تحكم استخدمها لطلباتك.

الرجل: (بضيق شديد صارخاً) فهمت. فهمت. لا تكرر علي ما قلته كأنك ببغاء.

الصوت: (يكرر) ببغاء! لا توجد هذه المفردة في قاموسنا.

الرجل: قاموسكم فارغ. لا ماء ولا ببغاء ولا عطش.

الصوت: (يكرر) أمامك لوحة تحكم استخدمها لطلباتك.

الرجل: والله فهمت. أقسم لك أني فهمت. حسناً، إذا كانت هذه هي رغبتك سوف استخدم لوحتكم اللعينة.

(يقترب من لوحة التحكم، يحدّق بالمفاتيح والكلمات الموضوعة قربها)

الرجل: أي لغة هذه؟ (يلتفت حيث مصدر الصوت) طيّب اكتبوها بالعربي (مستهزئاً) هذا هو قاموسكم الذي شغلتني فيه. يا اخي اكتبوها بلغة افهمها.

الصوت: (يكرر) أمامك لوحة تحكم استخدمها لطلباتك.

الرجل: علّمني كيف استخدمها. ألا يوجد كتيب لطريقة الاستخدام؟

الصوت: (يكرر) امامك لوحة تحكم إســـ…….

الرجل: (مقاطعاً) استخدمها لطلباتك. حفظتها يا اخي. أليس لديك غير هذا؟ حسناً.. حسناً (باستهزاء) حسناً يا حاج سأستخدمها وامري لله.

(يضغط على احدى المفاتيح وينتظر قليلاً حتى ينبعث الصوت من جديد)

الصوت: محاولة رقم واحد خطأ. للمحاولة مرة اخرى اضغط على المفتاح الصحيح.

الرجل: حسناً. حسناً. سأحاول.

(يبحث في اللوحة عن مفتاح يضغطه. يحاول مرة اخرى ويصدر الصوت ثانية)

الصوت: لا يمكنك الدخول على المحتوى. تلك املاك خاصة!

الرجل: (بسخرية وألم) والله هذه مهزلة. أي املاك خاصة وأنتم سجنتموني بسبب غرفة.

الصوت: بقيت لديك محاولة واحدة ان لم تكن صحيحة عليك الانتظار اسبوعاً واحداً حتى تتمكن من اعادة الاستخدام.

الرجل: (يضرب اللوحة بقدمه) بالله عليك من انت؟ لماذا كل هذا؟ لم اطلب منكم الا قدح ماء. هل يستدعي كل هذا العقاب؟ أكثر من مليون عائلة تسكن التجاوز فلماذا انا بالذات؟

الصوت: لديك محاولة اخيرة.

الرجل: (صارخاً) لا اريدها. لا اريدها. ايّاك أن تعيد وتكرر ما قلته. الأمر ليس بجديد عليّ، لا احتاج لأحد. عشت حياتي هكذا، يوم يشبه آخر، والأعوام تتكرر.. أدور حول نفسي ولا أجد نفسي! أنا تائه. أحياناً أحدّث نفسي واسألها، ما الذي يحدث لي؟ لماذا أنا؟

الصوت: ما الت لديك محاولة اخيرة.

الرجل: (صارخاً بألم) اصمت ايها الكريه. اصمت. (يركل اللوحة بقدمه وتبدأ الأضواء والضجيج داخل العلبة. الرجل يضع يديه على أذنيه. يتألم. فترة قصيرة وتختفي كل الأضواء ويتوقف الضجيج، ويعود الصوت)

الصوت: أمامك لوحة تحكم استخدمها لطلباتك.

الرجل: اللعنة عليك وعلى كل الطلبات وعلى لوحتك اللعينة هذه. أنتم تتلاعبون بي (يقف امام الشاشة الكبيرة) قل لأسيادك أن يوقفوا هذه المهزلة.

(مجموعة من افراد حفظ النظام والقانون يدخلون، يقيّدون الرجل ويقتادونه الى الخارج)

اظلام

المشهد الثالث

(قاعة كبيرة، بشاشات متعددة، عدد من اعضاء مجلس المقاطعة يتوسطهم قاض يجلسون في وسط القاعة، الضابط يقف جانباً بينما افراد وحدة حفظ النظام والقانون يدخلون الرجل وهو يصيح)

الرجل: ماء.. ماء.. أريد ماء!

القاضي: هذا هو الادمي؟

الضابط: نعم سيدي القاضي.

الرجل: سيدي القاضي أيرضيك أن أحرم من الماء؟

القاضي: (ينظر الى الضابط ومن ثم الى بقية الاعضاء وكأنه لم يفهم ما قاله الرجل)

الضابط: اصمت ايها الآدمي

الرجل: والله لن اصمت حتى تأتيني بقدح ماء

القاضي: يأتيك بماذا؟

الرجل: قدح ماء سيدي القاضي. انا عطشان.

القاضي: (ينظر للأوراق التي امامه)

الرجل: اعرف ان قاموسكم لا يحتوي على ماء ولا حتى على قدح لكنني احتاجه.

القاضي: وما حاجتك به؟

الرجل: أشربه سيدي القاضي. لا اعتقد انكم لا تشربون شيئاً.

القاضي: (يهز رأسه ويقوم بتقليب الأوراق والصحيفة التي امامه)

الرجل: يبدو أنك فهمتني سيدي القاضي.

القاضي: (يرفع الصحيفة بيده) هل هذه لك.؟

الرجل: (يحدّق بها) نعم سيدي القاضي هي لي. جريدة التقطتها من الشارع واستعملها سفرة للطعام. لست مهتماً بالسياسة ولا بالأخبار. أنا أهتم بالرياضة وكرة القدم على وجه التحديد.

القاضي: تقرّ وتعترف أنها لك.

الرجل: (يهز رأسه ايجاباً) هي لي لكني لم اشتريها.

القاضي: من أين حصلت عليها؟

الرجل: قلت لك سيدي القاضي التقطتها من الشارع.

القاضي: ما هو الشارع؟

الرجل: حتى أنت سيدي القاضي. الشارع هو الطريق الذي نسلكه.

القاضي: ها تقصد المسار. أنت تسميه شارع. وأيّ مسار فيه مثل هذه (يشير الى الصحيفة)

الرجل: الشوارع وحاويات الزبالة مليئة بمثلها.

القاضي: (غاضبا) لا تكذب! الوثائق ذات القيمة لا ترمى في المسالك.

الرجل: (مع نفسه) ذات قيمة؟ أي قيمة في هذه الجريدة!

القاضي: هذه واحدة من وثائق متحف المقاطعة.

الرجل: جريدة في المتحف.

القاضي: هذه صادرة في الأول من تموز عام 2020 الا يكفي ان يكون هذا التأريخ من أن تكون وثيقة.

الرجل: لم يمض على صدورها اسبوع سيدي القاضي.

القاضي: أنت تكذب ثانية.

الرجل: لنحسبها سيدي القاضي حساب عرب! لتعرف أني لم أكن كاذباً. أنت تقول ان الجريدة صادرة في الأول من تموز عام 2020 ونحن في اليوم الثامن منه (يعدّ على اصابع يده) معذرة سيدي القاضي قلت لك اسبوعا لكنها ثمانية أيام.

(الحاضرون في المجلس يضحكون ويتندرون)

القاضي: اسمع ايها الآدمي (يرفع الجريدة ويشير الى الصور التي فيها) هل تعرف من هؤلاء الآدميين في هذه الوثيقة؟

الرجل: كيف لا اعرف من سلبني الراحة وضيّق عليّ العيش وسرق ثروات بلادي

القاضي: الم يكونوا ابطالا ليضعوهم في هذه الوثيقة؟

الرجل: كل نطيحة ومتردية سيدي القاضي تنشرها صحفنا. أي ابطال الا إذا اعتبرناهم ابطالا في اللغف! فرّقونا ومزقونا شيعاً. اعرف ان هذا التصريح سيودي بي الى الجحيم لكني سيدي القاضي مللت وطفح الكيل ولن اخسر شيئاً ان اخرجت ما في داخلي. هؤلاء هجّروا أهلنا ونهبوا خيراتنا، هم لصوص تجاوزوا على القانون وضيّعوا ما لنا. تصوّر سيدي القاضي انا الذي بنيت غرفة في ارض الله اعتبروها تجاوزاً بينما راحوا يوهموننا انهم يحكمون باسم الله لكن الحقيقة انهم يسرقوننا باسمه.

القاضي: (باستغراب) متى آخر مرة رأيت فيها هؤلاء الآدميين.

الرجل: البارحة رأيت بعضهم في جهاز تلفاز المقهى كنت أنتظر مباراة كرة القدم بعد نشرة الأخبار. رأيت كبيرهم فهو دائماً يتصدر نشرات الأخبار. (يصمت قليلا) أعرف أن كلامي هذا سيورطني معهم لكن لا بأس. مللت العيش في بلد يحكمه اللصوص والشياطين.

القاضي: رغم أني لم افهم منك شيئاً لكن استوقفني التلفاز.   ما هو هذا التلفاز الذي تراهم فيه؟

الرجل: (ضاحكاً) هل يعقل ان لا يمتلك قاضٍ تلفازاً بينما الشاشات تملأ المدينة؟

القاضي: لا يوجد في مقاطعتنا شيء مما تقول (يصمت قليلاً) حسناً ايها الآدمي سأصدقك. وماذا ترى فيه أيضاً؟

الرجل: كل شيء سيدي القاضي. خطب رنانة واكاذيب ما انزل بها الله من سلطان. ومباراة كرة قدم. (مع نفسه) اعرف انك لن تعرفها. كل شيء أشاهده حتى البرامج الساذجة. تصوّر سيدي القاضي في برنامج الصباح يعلمون الناس كيف يطبخون البيتزا وشوربة الشوفان والكوكيز وهم يعرفون جيداً ان البيوت فارغة وهناك من لا يحصل على وجبة واحدة باليوم.

القاضي: وما هو الطعام؟

الرجل: (ضاحكاً) أيعقل سيدي القاضي أنك لم تذق طعاماً في حياتك. من أين جاءك هذا الكرش!

القاضي: لا يوجد في مقاطعتنا كل الذي ذكرته.

الرجل: سبحان الله. هل نفد الطعام ايضاً. (يصمت وكأنه يتذكر عطشه) أنا عطشان سيدي القاضي.

القاضي: كيف؟

الرجل: أنت لم تفهمني أيضاً. سيدي القاضي انا احتاج الى ماء لأنهم لم يسقوني قطرة ماء مذ أدخلوني السجن.

القاضي: وما هو السجن؟

الرجل: قاموسكم ينقصه كثير من المفردات. لا طعام ولا سجن ولا تلفاز.. ولا.. ولا. ما هذا؟ السجن يا سيدي هو المكان الذي أودعني فيه سيادة الضابط (يشير الى الضابط)

القاضي: (يصمت وهو يقرأ بعض الأوراق التي أمامه)

الرجل: كل الأوراق سليمة سيدي القاضي باستثناء الغرفة التي بنيتها دون موافقتكم. انا اعترف بخطأي ولا امانع ان رغبتم في هدمها.

القاضي: كيف جئت الى المقاطعة؟

الرجل: ولدت هنا، واعيش هنا، وجعت هنا.. وعطشت هنا. وضيّعوا عمري هنا..

القاضي: (الى الضابط) ما قولك فيما سمعت؟

الضابط: لم يقل شيئا مفيداً. هذا الآدمي وجدنا نائماً في مسار 958.

الرجل: (معترضاً) لم أكن نائماً في الشارع.. كنت في غرفتي.

الضابط: لم تكن هناك أي غرفة (مصراً) لا تكذب أيها الآدمي. كنت نائماً في المسار.

القاضي: (الى الرجل) ما رأيك؟

الرجل: قبل أن أنام اغلقت باب الغرفة. نمت حتى فوجئت بسيادة الضابط وهو فوق رأسي فيما طارت غرفتي! حتى غرفتي سرقوها مني.

القاضي: أنت تهذي. وضعك هذا يثير الريبة والشك. عليك ان تعترف ولا تجبرني على اتخاذ قرار يؤلمك.

الرجل: والله لم أقل الا الحقيقة.

القاضي: (غاضباً) اي حقيقة يا آدمي. أتريدني ان اصدق أنك رأيت هؤلاء (يرفع الصحيفة بيده)

الرجل: (مقاطعاً) لم أرهم وجها لوجه سيدي القاضي. قلت لك رأيتهم في التلفاز.

القاضي: (ما زال في غضبه) وما هو التلفاز؟

الرجل: صندوق صغير يظهر فيه كل هؤلاء.

القاضي: أتريدني أن أضعك في الصندوق الذي ذكرته؟

الرجل: أنت لم تصدقني. حسناً سيدي القاضي. اطلب من سيادة الضابط أن يأخذني الى المقهى وسأجلب لك جهاز التلفاز.

القاضي: وما هو المقهى؟

الرجل: ألا تعرفه سيدي القاضي؟ ما هذا (يتلفت هنا وهناك) قاض لا يعرف المقهى ولا التلفاز ولا الطعام.

القاضي: آدمي مدسوس من طرف ثالث.

الرجل: (وكأنه اكتشف شيئاً) الطرف الثالث. هل تعرف الطرف الثالث سيدي القاضي. والله يا سيدي أشبعونا قتلاً في التظاهرات الأخيرة.

القاضي: حسناً ايها الآدمي. ما قلته عن هؤلاء (يرفع الصحيفة) أمر في غاية الغرابة. فهؤلاء الذين تقول إنك رأيت بعضهم البارحة في الصندوق الصغير..

الرجل: (مصححاً) التلفاز سيدي القاضي. اسمه التلفاز أضفه الى قاموسكم.

القاضي: أي كان اسمه. هؤلاء الذين فعلوا بك ما فعلوا من قتل وتهجير وسرقة ومثلما تقول حكموكم باسم الرب.

الرجل: (مصححاً) باسم الدين سيدي القاضي (مع نفسه) باسم الدين سرقونا الحرامية!

القاضي: أنت اليوم في زمن له رب واحد وليس عدة أرباب.

الرجل: (مقتنعاً) أنت أفهم مني سيدي القاضي.

القاضي: أنتم جعلتموهم ارباباً ووضعتم مصائركم بأيديهم ورضيتم بالذل فحقّ عليكم العذاب. أنت أيها الآدمي صورة بائسة للتأريخ الآدمي!

الرجل: ما الذي فعلته سيدي القاضي لتصفني هكذا؟

القاضي: جئتنا وأنت تحمل كل أمراض الماضي.

الرجل: لم أحمل من الماضي الا اسمي.

القاضي: كل شيء فيك هو ماضٍ. هيأتك وملبسك.

الرجل: لم ألبس الا ما يلبسه الناس البسطاء. قميصي هذا وبنطالي من محل البالات، أقصد الملابس المستهلكة المعادة القديمة. لست من أولئك الذين يلبسون الحرير والغالي من الملابس.

القاضي: يبدو أنك لم تعِ ما أقول. ما تلبسه أيها الآدمي لا أثر له في مقاطعتنا. ألم ترَ الآدميين في المسارات.

الرجل: (يفكر) المسارات.. تقصد الشوارع. لا سيدي القاضي لم أرهم. لأن سيادة الضابط وضع كيساً في رأسي.

القاضي: (الى الضابط) خذوه بعيداً وضعوه في جناح العصر المظلم وأضيفوه الى كل الموجودات التي ضبطت معه.

الرجل: لا أحب الظلمة سيدي القاضي.

القاضي: كنت تعيش فيها كما اخبرتنا. أليس ذاك هو عصرك، العصر المظلم حيث يهان فيه الآدميون ويستعبدون.

الرجل: وما زلت فيه سيدي القاضي. لم اغادر عصري. وهو عصركم أيضاً.

القاضي: بل هو عصركم. فعصرنا يحترم الآدمي وتوزع ثروات المقاطعة على الجميع. لن تجد هنا فقيرا أو محتاجاً.

الرجل: (مستغرباً) البارحة عصر واليوم عصر آخر؟ ما الذي تقوله سيدي القاضي؟ أنا لم أفهم.

القاضي: أنت أيها الآدمي في زمن ليس زمنك.

الرجل: أنا في عام 2020 وهذا زمني.

القاضي: بل أنت في عام 3020 وليس 2020 هناك فرق ألف عام.

الرجل: ألف عام…؟ نمت ألف عام.. (يضحك كأنه لم يصدق) ما هذا الذي أسمعه. هل أنا ديناصور لأعيش ألف عام.

القاضي: خذوه.. رفعت الجلسة.

اظلام

المشهد الرابع

(غرفة قديمة، بسرير حديدي هو ذات السرير الذي ظهر في المشهد الأول، الرجل نائم.. صوت طرقات على الباب)

الرجل: (متضايقاً) دعوا الديناصور نائماً..

صوت نادل المقهى: استيقظ يا رجل. تأخر الوقت.

الرجل: (ينهض متثاقلاً) ما هذا.. رضيت أن تزجوني في جناح العصر المظلم ألا يكفيكم ذلك حتى توقظوني من نومي.

(يذهب لفتح الباب، يدخل نادل المقهى، الرجل يحدّق به مستغرباً)

نادل المقهى: ما بك يا رجل؟ كأنك تراني لأول مرة.

الرجل: حتى أنت ايها الآدمي.

نادل المقهى: (مستغرباً) أنا ماذا…؟ آدمي…؟ ما هذا الوصف المهين. ألا تعرفني؟ أنا نادل المقهى.

الرجل: المقهى؟ وما هو المقهى؟

نادل المقهى: المقهى الذي نشاهد فيه مباراة كرة القدم.

الرجل: وما هي مباراة كرة القدم. هذه ليست موجودة في قاموسنا.

نادل المقهى: قاموسكم.. يا ساتر.. كرة القدم تلك التي تحبها.. نشاهدها في التلفاز.

الرجل: وما هو التلفاز أيها الآدمي؟

نادل المقهى: (يتلفت يميناً ويساراً) هل فقدت الذاكرة يا رجل؟

الرجل: أخبرني كيف وصلت الى هنا أيها الآدمي؟

نادل المقهى: جئت ماشياً (يضحك) هذا ليس وقت المزاح يا أخي.

الرجل: من اي عصر أتيت أيها الآدمي.؟

نادل المقهى: (يدفعه ويجلس على السرير) كف عن مزاحك يا رجل. أنا صاحبك. ارتدي ملابسك وتعال معي. هناك مباراة مهمة بكرة القدم ستبدأ بعد قليل في التلفاز.

الرجل: التلفاز غير موجود في قاموسنا. ما هو هذا التلفاز؟

نادل المقهى: تلفاز المقهى. هل نسيته؟

الرجل: وما هو المقهى. هذا غير موجود في قاموسنا.

نادل المقهى: مقهى الحي.

الرجل: وما هو الحي أيها الآدمي؟

نادل المقهى: حي التجاوز. هل نسيته؟ الحي الذي نعيش فيه.

الرجل: في مقاطعتنا لا توجد احياء. ولا يوجد تجاوز. مقاطعة واحدة يعيش فيها الآدميون بسلام. (يصرخ بصوت عال) ايها الضابط. خذه وارميه في جناح العصر المظلم.

نادل المقهى: وهل يوجد عصر أشد ظلاماً من هذا العصر.

اظلام/ستار

22 شباط- 2 آذار 2020

البصرة

Share: