البصرة من جنتها إلى خرابها

هناك إشارة تاريخية تعززها الشجرة الغافية على جرف شط العرب في مدينة القرنة والتي تسمى (شجرة آدم) بان أبا البشرية آدم وحين انزله الله تعالى إلى الأرض بعدما أغواه إبليس بمخالفة ربهن والقصة معروفة للجميع، كان نزوله في تلك المنطقة التي توجد فيها شجرته الآن.. وقد جاء في تبرير اختيار هذا المكان دون غيره من الأمكنة لأنه يشبه إلى حد كبير الجنة التي تركها أبونا آدم خلفه .. إذن كانت أرض البصرة آنذاك عبارة عن جنة خضراء.. وعندها بدأت البشرية بالتناسل، وراحت تبني مدناً وحضاراتٍ، وتُقيمُ شواخصَ ما زال إنسان اليوم يزورها ليقف عند عتبات الماضي من خلالها مثل اهرامات مصر وجنائن بابل وأسدها ن وسور الصين الذي يُشاهد من سطح القمر ويبدو مثل خيطٍ متعرجٍ .. كل ذلك والإنسان يفكر في إنماء حياته جمالياً وسياحياً واقتصادياً..
ومثلما بدأ الإنسان بترتيب بيته الصغير وفق ذائقته الجمالية، قام بترتيب مدنه وصارت أسماء بعض المدنِ تبهرنا بدلالاتها التاريخية أو المعاصرة، فبغداد حاضرة الدنيا وهي دار السلام، والبصرة إناء العلم والفن والأدب، وهي مدينة المربد وهناك دمشق وبيروت والقاهرة والحجاز بمدنه وقراه واليمن السعيد ، وهناك أيضاً اسطنبول (الطرابيش) ودلهي (البهارات) وموسكو الحمراء دائماً!
هذه المدن ومدن أخرى سمعنا بها أو لم نسمع ، قرانا عنها أو لم نقرأ ، زرناها أو لم نزرها، تشكّلُ تحديّاً لجبروت الطبيعة خاصة وان بعضاً منها قد شُقَّ من صخور الجبال واستوت على هضاب يابسة أو سهول ليّنة!
ومن غرائب الأمور أن يفتخر الغربيون بتقدمهم العلمي ودخولهم عصر الفضاء وتجوالهم بين الكواكب السيّارة بينما ما زلنا نحن العرب نفتخر بعصبيتنا القبلية وننحاز لعشيرتنا ونتذكّر بفخر الفحولة حضارات أجدادنا التي طُمرت تحت التراب وغدت سراباً في وادي الرافدين ووادي النيل، والأغرب من هذا كله إننا لم نستطع الإمساك بحجرٍ واحدٍ من تلك الحضارات الا بعدما التهمت معاول آثاريي الغرب والمستكشفين تلك التلال التي أغلقت بوابات حضاراتنا ، وغريب الغرائب أيضاً أن تغفو تلك الرقم الطينية ووجوه أجدادنا الحجرية والمذهبة وبصمات أصابعهم على تلك الألواح في متاحف الغرب ليفتخروا هم بإنجازاتهم الذاكيّة فيما نحن ما زلنا نعلّم كبارنا وصغارنا أبجدية النظام والمرور ودبلوماسية الحديثة وديمقراطية العلاقة بين الرئيس والمرؤوس واحترام حرية الآخرين وحق الجار على الجار ووضع (الزبالة) في براميل (الزبالة)!
· بصرة الأمس:
سنطبقُ ما ورد من كلام على البصرة المدينة والناس، لأننا لا نستطيع أن نفصل بين الأثنين ، فالمدن لا تصبح مدناً الا بسكّانها، ودونهم تصبح خراباً واطلالاً.. ودونهم تموت.
والبصرة منذ بنائها من قبل قائد الجند الإسلامي عتبة بن غزوان عام (14 هجرية) بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب كانت مح0ط أنظار العالم فقد أحسن عتبة تمصيرها حتى غدت كما يقول تأريخنا المحترم حاضرة الدنيا، كان هذا قبل ان يكتشف كولومبس قارة أمريكا وقبل ان تذبح سيوف الإسبان ومرتزقة أوربا هنود أمريكا المساكين وتزرع أجسادهم في الأرض التي استطال في أرضها تمثال الحرية!
أنجبت المدينة واحتضنت عدداً من العلماء والمفكرين والأدباء وما زالت مراقدهم تحكي قصة الأمس، ففي مقبرة مدينة الزبير هناك ضريحا الحسن البصري وبن سيرين، وضعا في غرفة واحدة تعلوهما زقورة بيضاء تشير إلى زمن أكثر صفاء وصدقاً..وفي البصرة رصد الخليل بن احمد الفراهيدي إيقاع الشعر ووضع ميزانه وعرّفَ بحوره، وفيها أيضاً وجد أبو نواس صحبةً وندماءً بعدما عبرت به أمه الشط قادمة من الجانب الآخر وبدأ في البصرة يقول الشعر الذي يردده كل لسان قبل ان تُغريه قصور الخلافة ليكون اشهر شعراء عصره.. ونحن لسنا بصدد ذكر الأسماء والأفعال الماضية قدر تعلقنا بالحاضر وخوفنا من المستقبل، فما بين مربد المقايضة والشعر وبين مربد الدولارات ومسح أكتاف المستعمِر، سنوات من المتاجرة بأسماء ومدن وقصبات.
وقد قيّض لهذه المدينة ان لا تخلع عنها لباس الحرب منذ أول عود قصب سوّر نهر الأبلة واختيارها ثكنة حربية للجيش الزاحف باتجاه الشمال والشرق ولحد يوم سقوط تمثال الفردوس.. قدر المدينة الأسود أن تحارب دائماً، حتى على حساب أهلها، أمنهم واستقرارهم ومضى زمنهم يجرُّ خلفه بقايا حروبٍ وخرائب وذاكرة تفننت في وصف هذه الحرب او تلك كما يتفنن العاشق في وصف حبيبته.. موتٌ بالمجّان، مرة من اجل التوسع وأخرى لرد أطماع التوسعيين، وفي كلِّ حربٍ هناكَ سلب ونهب أو ما اصطلح عليه العراقيون بـ(الفرهود) حتى سمّى بعضهم أبناءه باسم (فرهود)، فمن الفرهود الأول حتى الثاني والثالث و فرهود زمن الإنجليز الأول(1914) والثاني (2003)، سنوات من الظيم والفتك والتنكيل جعل البصرة تغوص في بحرِ دمٍ لا ينقطع حتى قبل أن يعلم احدٌ أنها تطفو على بحرٍ من النفط!
أعيد بناء البصرة عدة مرات – كما يذكر التاريخ- ولا ندري باية صورة أعيد البناء ونعتقد انه على طريقة
(يبني الأخيار ما دمره الأشرار!!) ذلك الشعار الذي رفعه صدام والمتصدّمون من القفّاصة والسلاّبة الرسميين لنهب ما بقي من نخل البصرة وثرواتها النفطية.
المصوّر الرائد الحاج قاسم صاحب المختبر المعروف باسمه في سوق حنا الشيخ يحتفظ بارشيف صور البصرة أيام زمان ن وبالضبط منذ بدايات القرن الماضي، صور العشرينيات تنبؤك بان الذي تشاهده أطلال مدينة، لكنك حين تتصفح صوراً اخرى لخمسينيات القرن الماضي ستجد ان المدينة قد استردت عافيتها ، صورة لمقام الأمير وساعة سورين وشارع الساحل وهيئة التمور ونهر العشار واسد بابل ، صور من زوايا التقاط مختلفة ممتلئة عافية حيث الخضرة والمكان النظيف وعامة الناس بلباسهم التقليدي وسيارات الفورد ، هذه الصور وما احتفظت به ذاكرة الناس من الأوائل تجعلنا نرثي أنفسنا قبل ان نرثي المدينة.
واحدة من صور البصرة القديمة عرضتُها على رجلس تجاوز عمرة الستين عاماً ن نظر اليها بعد ان مسح نظارته الطبية ذات الزجاج السميك وقال بحسرة شعرت انها اعادته الى زمن الصورة: كانت بصرة بحق.. لعن الله من خرّب دارها وشتت عيالها!!
· مدينة لا تموت:
كثيرة هي السيوف التي دارت حول عنقها وحزّت وريدها لكنها كانت تنهض من جديد بعد كل موت مثل عنقاء تحلّق في فضاءات التاريخ.. البصرة، هذه المدينة التي لم يُنظر لها الا بعين الحسد ، فأهلها محسودون وخيراتها.
لم تأتِ حكومة عراقية على مدى التاريخ وانصفت هذه المدينة او اهتمت بها، رغم ان جميع تلك الحكومات كانت تتحدث عن تضحيات هذه المدينة وتضحيات أبنائها ومزاياها العظيمة وتأريخها المجيد العتيد وكانت تحلب خيراتها وتذلّ اهلها.. معادلة لم تنته بسقوط التمثال في ساحة فردوس بغداد ولا بالتصريحات الموسميّة ، انما بالعمل الجاد من حكومة وطنية مخلصة تزرع ثقتها في نفوس مواطني المدينة وتلغي ذلك الحاجز الكبير الذي جعل البصرة تبات ليلها مظلومة مطعونة في الظهر!
كثير من المدن قد ماتت، لكن البصرة لا تموت ابداً.
· هيئة إعمار البصرة:
سمعنا ومن خلال الصحف، ولا ندري إن كان الخبر صادقاً او مثل اخبار زيادة رواتب المتقاعدين الذي ينشر في كل عدد من صحيفة عراقية لها قاعدتها العريضة في سوق الضحك على الذقون ، سمعنا ان هناك عيئة قد شكّلت من قبل رئيس الجمهورية لإعمار مدينتي البصرة والناصريةن واذا كان هذا الخبر صحيحاً فأن علينا ان ننبه من يقوم بإعمارها أن لا يكون الإعمار على الطريقة الصدامية أي الترميم والصبغ من اجل (حلب الأموال)، ونحن نعرف جيداً ان المقاول العراقي ينتظر الفرصة لملء جيوبه بما بقي لنا من دنانير ..
الإعمار يجب ان يشمل بنيتها التحتيّة، شبكات المياه، شبكات الكهرباء والصرف الصحي والهاتف ومن ثم الشوارع والبنايات والساحات والبيوت والمنشآت والمدارس والحدائق العامة والمتنزهات..و,,و,,و..
هل هذا كثير على البصرة؟ ابداً فالبصرة تصدر من النفط يومياً ما مقداره (2) مليون برميل في الوقت الذي تصدّر الأمارات 350 ألف برميل في اليوم وأنظر بعينك وارحم بقلبك!!!!
على المعنيين في الاعمار ان يكونوا عند حسن الظن رغم أني سمعت همساً من عراقيين انهم لا يريدون المقاول العراقي ان يبني مدينتهم لأنه – كما يقولون- لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.
والآن، ماذا بقي من البصرة، تلك جنتها وهذا خرابها! 

الحوار المتمدن-العدد: 1394 – 2005 / 12 / 9

Share: