با ادريس
مونودراما خاصة تحكي سيرة الكاتب الكبير الراحل ادريس الخوري 1939-2022
(سيرة الكاتب الكبير القاص المغربي إدريس الخوري)
توطئة: بعض مفاصل الحوار، مستلة من أحاديث متفرقة للقاص المغربي الراحل إدريس الخوري مع بعض الصحف والمواقع، تم التصرف بها.
المشهد:
غرفة فوق السطوح، شبه فارغة، الا من سرير وكرسي ومنضدة، وضعت فوقها كتبا بغير انتظام، بادريس يتمدد في السرير، رجل ثمانيني، مديد القامة، ضخم الجثة، مكتمل بشارب وبلحية، ضوء باهت يمر عبر النافذة.. صوت يسمع من الخارج:
الصوت: ها قد بلغت من الكبر عتيّا، فماذا تبقى لك من الوقت لكي تختفي عن الأنظار نهائياً؟ أيّها التعيس، لقد حانت نهايتك!
ادريس: (يرفع رأسه ويحاول النهوض بتثاقل، ينظر باتجاه مصدر الصوت/النافذة.. يتمتم) لا شيء، لا شيء.. لم يبقَ متسع من الوقت كي أجترّ سنواتي.. كل ما مضى هناك (يشير الى الكتب فوق المنضدة) كل حرف فيها بثانية من الزمن، وكل جملة بدقيقة منه، وكل كتاب من تلك الكتب بأم وليالٍ وربما سنوات (يعدل في جلسته، يبحث عن نعله أسفل السرير، يضعه في قدمه، يشعل سيجارة، يأخذ نفسا منها ويقرّبها امام وجهه) العمر سيجارة، لا تطفئ ما في الصدر، ولا تقلل من براكين الرأس (يشير بإصبعه الى رأسه) أحرقت كثيرا منها، وأحرقتني أيضا (يبتسم بسخرية) منذ أربعين عاما وأنا مرتبط بهذه السيجارة ارتباطا حميميا، انتقيها باعتناء (ينظر الى السيجارة وكأنه يتحدث اليها) نعم، أنتقيكِ باعتناء، هل أنت راضية بانتقائي؟ (يضحك) لا أدخن الا هذا النوع، نوع واحد فقط، كازا سبور (casa sports)، هذا النوع يستهويني بنشوة عابرة، أعرف أنها سمّ، لكنّها سمّ لذيذ (يسحب نفسا منها).. حاولت أكثر من مرة التخلّي عنها، لكنها، وبصراحة، تزوجتني (يضحك وهو يسعل) آه تزوجتني، (مؤكدا) وللأبد (يضحك ثانية) ما الذي أفعله لها، لا أستطيع عنها فكاكا، لكن وبصراحة، أحيانا أهجرها شهرا أو شهرين، لكني أعود لها طائعا.. أحتاجها جدا، فهي تطفئ غضبي، وتفتح مغاليق مخيلتي وأنا أكتب. (يأخذ نفسا طويلا منها) هناك من يقتل أكثر من هذه (يرفع السيجارة أمامه) الوحدة.. الوحدة قاتلة، لكنها لا تقتل الا من عاش حياته بين الناس. مثلي مثلا.. أنا المنزوي في هذه الغرفة البائسة فوق السطح، أعيش الوحدة (يؤكد) وحيد أنا الآن، لا أحد يسأل عني، فالكل أصبح منشغلا بمشاريعه الخاصة، ويجمع النقود. (بألم وهو يرمي السيجارة ويدوسها بقدمه) تبّا للنقود التي انتزعت الحب من النفوس. (ينهض ويقترب من النافذة وينظر للخارج) تلك المدينة التي تسكّعت في دروبها، وحاناتها، ومقاهيها، لم تعد سوى ورقة نقدية.. الكل فيها يلهث خلف النقود. كنت وصحبي نقضي الليل بطوله، لا نسمع الا قرقعة الكؤوس، نشرب حد الثمالة ثم تأخذنا الدروب.. أحب ليالي كازابلانكا، ووجها الباسم النقي الطاهر (بثقة) أنا كازابلانكي الهوى، لا يجاريني في عشقها أحد. أعشقها حدّ الجنون (يعود الى الكرسي، يجلس أمام منضدة الكتب) نحن أبناء الشغيلة الفقراء، أبناء الأرض، الوجه الذي لوّنته الشمس بخيوطها، أحببت موسيقى هذه البلاد، الموسيقى المغربية الشعبية، تلك التي تحرّك الروح، وتعدل المزاج، (يحاول أن يستذكر أسماء الموسيقى) العيطة الشعبية الحوزية المرساوية والملحون. الموسيقى تجري في دمي.. في صباي، اشتغلت في فرقة للهواة عازفا على آلة الدربوكة. كنت أعزف بمهارة (يضرب بأصابعه على المنضدة بإيقاع متتالي) وكنت أتقن كل الايقاعات، شاركت مع الفرقة في كثير من الأفراح، والاعياد، أجلس معهم بجلبابي الأبيض، وقدميّ الحافيتين، أضرب على الدربوكة بيديّ، كنت سعيدا وأنا أرى سعادة الناس مرتسمة على وجوههم. حفظت الأغنية عن ظهر قلب، وللآن أدندن بها (يدندن مع نفسه أغنية كارم محمود) عيني بترف يا حبة عيني.. ياللي سرقت النوم من عيني (يتوقف عن الغناء ويضحك واقفا) هذه الأغنية صارت عنوان فرقتنا الشابة. كنت أنا والدربوكة صديقان، لا نفترق، عوّضتني عن كثير من الخسارات في حياتي. وأولها والديّ، صحيح أنا لم أرَ أمي ولا أبي، فقد توفيا، وعشت في كنف أخي الكبير، كان عطوفاً عكس زوجته التي كانت تريني نجوم الظهر، توبخني، وتقسو عليّ، يومذاك، كنت أقف أمام صورة أبي المعلقة على الجدار، أحدّق في عينيه المتعبتين، واشكو له. ابي الذي لم أره الا صورة جامدة، بالأبيض والأسود، وأمي التي لا صورة لها الا فيما رسمته مخيلتي عمّا نقلوه عنها في درب غلف. (يصمت قليلا) آهٍ يا درب غلف، كم أنت عظيم أيها الحيّ البيضاوي، جزء من روحي درب غلف، ما زلت ملتصقا به رغم مضي السنين. تلك الدروب، وشرفات البيوت، وذاك السوق وأصوات الباعة. مزيج من الألم والحنين. هكذا دار بي الزمان، (بألم) كم أنت قبيح يا زمن! لم يعد درب غلف كما كان بعدما ابتلعه وحش الاقتصاد. (بتردد شديد) لكنه لم يمت، فوجه درب غلف القديم هنا (يشير الى رأسه) في هذا الرأس، استدعيه كلما جرّني الحنين له. لا أحد منا لا يحنّ لأول بيت عاش فيه، فالأول يبقى أولا أينما حلّ بك الزمان. (يقوم بتقليب الكتب التي أمامه ويتوقف عند كتاب) حزن في الرأس والقلب.. نعم، ما زال جاثماً يتلو ما تيسّر له من أيام مضت، وأخرى ستجيئ.. هو ذا كتابي الأول، فيه نفحة السبعينيات، بعضكم لم يولد بعد، وبعضكم عاش تلك الأيام.. سعادة الكاتب بكتابه الأول لم أذقها، ليس لأنني اختلف عنهم، انما لأني لم أجد نفسي مسجّلاً في قاموس السعادة! أنا خلقت لأكون كاتباً، في بواكير حياتي كنت أتنقّل بين المكتبات باحثا عن قصص وروايات تُشبع شغفي، وتبعدني عن واقع لم أرَ فيه ما يسر. قرأت لنجيب محفوظ ومحمود تيمور ومارون عبود، كما قرأت لمحمد برادة وعبد الجبار السحيمي.. في البدء، جرّني الشعر لمحرابه، كتبت الشعر، ووجدتني بعد تجارب عدة في دارة القصة. استهوتني كثيرا، وكانت جزءا مني، ومدخلا لصوت الفقراء والمهمّشين والمعدمين من الطبقات الهشّة الذين تضجّ بهم الحياة. هم كثيرون، ربما أنتم منهم، تلك الحياة التي لا يعرفها الآخرون الذين يعيشون في بروجهم العالية. (يصمت قليلا وهو ينتقي كتابا آخرا، ينظر الى عنوانه) الأيام والليالي، (يهزّ رأسه وهو يستذكر الكتاب) عنوان لا بأس فيه، هنا تاريخ قاع المدينة، القاع الذي أحببته وذبت فيه، أحببته بكلّ شخوصه، وزواياه رغم الألم الذي يندسّ في تلك البيوت البسيطة الغائرة في الزمن. (يضع الكتاب جانبا) تلك هي اللعنة (يفتح علبة السجائر ويتناول واحدة يضعها بين شفتيه ويشعلها) نعم هي اللعنة التي ما انفكت تطاردني (يضحك) ليست لعنة هذه السيجارة، بل أعني لعنة الكتابة. اشتركت واياها مع رفاق الكتابة. العالمي محمد شكري والكبير محمد زفزاف والمغربي أنا. كانت فضاءات طنجة والقنيطرة والبيضاء تسع كل أحلامنا، وتمطر نصوصا على أوراقنا. هي ذي لعنة الكتابة التي ما زالت تطاردني وتعطبني بكوابيسها، وترهق كاهلي بأعبائها. (يفتح كتابا ويقرأ) يوميات خديجة البيضاوية.. (يأخذ شهيقا طويلا) إيهٍ خديجة! ما حسبتكِ هكذا، كل ليلة تأتيني لتعاتبيني.. ما الذي بيدي لأغيّر ما صار واقعاً.. رسمت خطوط حياتك وجف القلم! (يضع الكتاب جانبا، ينهض بصعوبة) كانت جميلة البيضاوية تلك تريد أن أصنع لها مستقبلا غير الذي دوّنته لها. تقول لي بنبرة خشنة: أريد مستقبلا جميلاً! (يضحك) الكاتب يا سيدتي لا ينحاز لشخوصه، النص يفرض عليه مصائر مختلفة حتى ان لم تسعده. هذا ما كررته على البيضاوية تلك، وأعيده على كل الشخوص التي توقظني من قيلولتي. الجميع يذهبون مقتنعين الا جميلة. هي لا تعرف معنى الفرح أو معنى القيلولة أو معنى الحب. تقف أمامي بجلابيتها الزرقاء الفضفاضة، تلك الجلابية التي ألبستها إيّاها، تمدّ أصبعها نحوي قائلة:
- لماذا أوقعتني في مصيدة صاحب المعمل القصير الاكرش…؟
هو نفس السؤال الذي راودني أنا أيضا.. لماذا أوقعتها في شرك ذاك الدنيء؟ تغادرني وصدى صوتها يصم أذنيّ:
- مالي يا ربّي مالي!
يوم جميلة البيضاوية ليس كمثله يوم، كان يومها عبارة عن جوارب متسلسلة في ذاك المعمل.. مرات تطلب مني أن أعيدها الى قريتها الصغيرة في الشاوية وتعاتبني بمرارة لتقنعني بالعودة الى الجذور قائلة:
- ألا تتوق أنت للعودة الى درب غلف؟!
أبلع اجابتي، وأصمت. (يأخذ نفسا من سيجارته) الكاتب مسؤول عن عوالمه التي يخلقها، وعوالمي أنا مأخوذة من تلك الأماكن التي أحببتها وحدّثتكم عنها، عوالم مختلفة، بوجوه شخوصها المتعبة، وضجيجهم اليومي، وأحلامهم الموؤدة في المقاهي، والحانات، والمسارح الشعبية ودور السينما، والأسواق. كلها هنا (يشير الى الكتب).. في هذه الأوراق التي أحرقت سنوات عمري. ليس غريبا أن أجد ضالتي في تلك الأماكن خاصة تلك التي تواجدت فيها بشكل مستمر، وأنا لا تستهويني الا حانة واحدة.. ليس سرّاً ان اذكر اسمها.. (يصمت قليلا مفكرا) تيتان.. (يقولها واثقا) هذا هو اسمها.. للآن أتذكر، حين ذهبت اليها بعد أسبوع من موت صاحبها الكورسيكي جان لوي، رأيت زوجته دومينيك حزينة، منكسرة.. وما ان رأتني حتى أجهشت بالبكاء.. قالت لي:
- مات صاحبك جان!
لم أكن أصدّق أن من يحمل ذلك الكم من السعادة، والوجه البشوش، يموت.. لم أرَ جان لوي طيلة تواجدي في حانته عابساً، او حزينا.. حتى في الأماسي التي تحدث فيها مشاكل في الحانة، لم يغضب، كان يهدئ الجميع ويقول بلكنته الكورسيكية:
- كلكم أبناء الله
(يضحك وهو يلوك الكلام) يرفع جان لوي كأسه مناديا بصوت أشبه بأصوات شخصيات الرسوم المتحركة:
- هيا أيها الأبطال لقد حانت لحظتكم…!
عندها، يضحك الجميع، ويعودون حيث مقاعدهم الخشبية، والطاولات الآبنوسية. في تلك الليلة التي بدت فيها دومينيك شاحبة الوجه، محمرة الأنف، تعكّر مزاجي، رجعت الى غرفة السطح المطلة على تلك الشوارع المعتمة، حاصرتني لعنة الكتابة وبدأت أكتب.. وأكتب حتى غفوت على الورقة. ألا تستحق تلك الحكاية أن يسمعها الناس؟
(يرمي سيجارته على الأرض ويدوسها بقدمه) لا ادّعي بأني كاتب استثنائي، لكني أحاول أن أكون استثنائيا في كتابتي، ولغتي، ورؤيتي للأشياء والموجودات في العالم. وليس هذا وحسب، انما في طريقة لباسي أيضاً، وسيري في الشارع العام، وفي الطقوس الحميمية التي تربطني بذاتي وروحي وعلاقتي مع الآخرين، لهذا لا يخلو كتاب من تلك (يشير الى الكتب) من لهجات العامّة، وأفكارهم، وتعاملاتهم وحياتهم البسيطة. لا تستهويني كل اشكال الرفاهية وأراها أقنعة لا تليق بإنسان! (يجلس على الكرسي) مرة سألني صحفي:
- كيف ترى المرأة؟
سؤال صعب، أليس كذلك؟ برأيكم بماذا أجبته؟ (يصمت قليلا وكأنه يتذكّر) قلت له، المرأة عندي كائن حي دوني في مجتمع ذكوري! (يضحك) أعتقد أن بعضكم لم يرضه الجواب.. أو هكذا يتراءى لي، صمتكم يفضح ما تفكرون فيه (يضحك بصوت اعلى) هناك من يقول أن المرأة هي نصف المجتمع، لكن في أوقات كثيرة، لماذا يُشل هذا النصف؟ بالنسبة لي، لم أكن محظوظا بالزواج.. فأنا لست الزوج المثالي الذي يدخل البيت في الوقت الذي تفرضه الزوجة، ما زلت أشرب القهوة خارج البيت، وأسهر الليل خارجه، وما ز1 لت أعود متعبا مثل حصان. أنا داخل البيت ليس كخارجه، هنا رجل، وهناك رجل آخر! أرى أن الزواج مخلب (يحرّك أصابعه أمام وجهه) نعم، مخلب كبير، ما ان يظفر بك حتى يبقيك أسيراً في محوره. لم أرغب الا في أن أكون حرّاً طليقاً في حياتي (يضحك) أعرف ان بعضكم سيعارضني، ويزعل، لكني لا أسخر من أحد (مستدركا) بالرغم من أني أميل الى السخرية (يضحك) تعجبني السخرية وأعجبها، نتفاهم مع بعضنا البعض، ليست لدي أخلاقيات معينة، ما زلت أحافظ على محتوى شخصيتي، هناك من يشبهني، ربما كثيرون مثلي، لكن لم يحالفهم الحظ في أن يظهروا للعيان.. أنا ادريس الخوري، بادريس او بوكوفسكي المغرب، اسم أطلقه بعض الأصدقاء، سامحهم الله، لست الصعلوك الوحيد، فهناك في كل مدينة صعلوك، مثلما هناك مجانين، ومتسولون، وعمال وأرباب عمل ونساء مضطهدات من أمثال خديجة البيضاوية، وأطفال لم يعرفوا رائحة الزهور الطبيعية. أنتم متخمون بالألم، منقرضون. كلنا منقرضون، تنتظرون نهايتكم ولا تجدون من يقف معكم، مثلي أنا، مثلي تماما، بعدما غيّب الموت رفاقي، وابتعد عني آخرون حين غيّبهم جمع النقود. أقول، مهما جمعتم من أموال لن تستطيعوا تأثيث مقابركم بأيديكم. هناك من ينوب عنكم، وربما يشتمكم وهو يهيل التراب على اجسادكم. تلك الأموال التي باعدت بين القلوب لن تعادل ما خسرته من مداد في كتابة تلك الكتب. (يشير الى كتبه ويمسك كتابا بعد آخر وهو يصيح) خذوها، اقرأوها جيداً، ابحثوا عن أنفسكم فيها.. خذوا هذا (يقرأ العنوان) حزن في الرأس والقلب.. وخذوا هذا (يقرأ العنوان) ظلال، وهذا (يقرأ العنوان) البدايات.. خذوا الأيام والليالي وفضاءات. (يقف منهكا، يتقدم نحو السرير وقبل أن يتمدد يتمتم) ألم أقل لكم، لست انا الا رقما عاديا من أرقام الكتابة في هذا البلد (يغطي جسده بالقماش، صوت يُسمع من الخارج)
الصوت: أيّها التعيس، لقد حانت نهايتك!
اظلام
البصرة في 21-6-2022
اترك تعليقا