البيئة العراقية تستغيث

هناك كثير من الأمور التي لم يفقه المواطن لحد الآن خطورتها على حياته، لهذا فهو يتصرف وفقاً لأهوائه ونواياه، ومن هذه الأمور البيئة، تلك التي نالت هي الأخرى ما ناله الناس في بلادنا المستلبة في كل الأزمنة.. جولة واحدة في المدينة تشعرك مدى الخطر الذي يحدق بنا وهو خطر قريب هذا اذا لم يكن قد وصل الى عظامنا!!
(بيئتنا في خطر) قالها استاذ جامعي وهو يرى حاوية للقمامة تنبعث منها النار والدخان الأبيض والأسود لينذر الناس بالخطر العظيم!.. لم يقل ذلك غير هذا الاستاذ فهو العالم بمخاطر حرق القمامة في المناطق السكنية.. جرنا الحديث عن البيئة الى جيوب أخرى لها علاقة بجمالية المدينة وصحة المواطن لهذا حملت أوراقي الى الشارع واستطلعت وراء الناس الذين ربما غفلوا عن هذا الخطر الجسيم وهناك وقفت عند حجم الكارثة.
· نهر العشار يستغيث:
نهر العشار الخالد، ذاك الذي يحمل الماء الى أجزاء بعيدة في مدينة البصرة، يتفرع من شط العرب الكبير مخترقاً مناطق مختلفة تنتهي بالبصرة القديمة.. هذا النهر صار مترعاً لأزبال المطاعم ومحال الأحذية والفنادق والناس، قف عند واحد من جسوره، وليكن جسر المحافظة القديمة الذي يمتد قبالة فندق حمدان، او جسر مقام الأمير، هناك ستجد العجب العجاب، علب الببسي كولا والبيرة ونفايات الشقق السكنية والمياه الثقيلة، الماء الذي كان في يوم ما عذباً زلالاً صار نتناً ببقايا النفط والقمامة التي خنقت عبقه وحولته الى مجرى لا يسر الناظرين.. في النهر هذا ستجد أسراب الزوري تشكّل دوائر حول قطعة خبز انفردت من بقايا طعام ألقى بها عامل مطعم وراحت تدور وهي تقظم ما بقي منها. النهر يموت، يموت بجد بينما ننظر نحن اليه كمن ينظر الى جرح نازف في الصدر!!
· الخندق وأخواتها:
زرنا مناطق مختلفة ولعل منطقة الخندق أفضلها من حيث النظافة، ولا نقول أفضلها بمعنى انها تمتاز بالنظافة فما شاهدناه من اكوام للقمامة على ضفاف نهر الخندق يؤكد لنا ان مناطق البصرة بحاجة الى حملة كبرى للنظافة تبدأ من البيت حتى الشارع.. قال لنا رجل قال انه يعمل في المجلس البلدي:
– لقد وزعنا أكياساً للقمامة، وما زلنا نجري حملات للتنظيف في المنطقة بواسطة التراكتورات وعدد كبير من العاملين وان المقاول يقوم بعمله على أتم وجه!
بينما قال لنا مواطن بعد لحظات قليلة:
– لم نرَ أكياساً للقمامة الا مرة واحدة وأن أكثر العاملين في حقل التنظيف لا يقومون بعملهم بالصورة المطلوبة والشاهد على ذلك أكوام القمامة تلك.. (وأشار الى أكوام متفرقة).. قلت له:
· وما هو دور المواطن؟
– ما الذي يستطيع ان يفعله المواطن اذا لم يجد حاوية للأزبال أكيد سوف يرمي الزبالة في المناطق الخالية..
· ولكن تم توزيع براميل للقمامة؟
– رايتها من قبل ولكن لا ادري أين ذهبت.. لقد اختفت من المنطقة ولم يبحث عنها احد!!
· أتعتقد أن أحداً سرقها؟
– ألف بالمئة قد سرقت..
· ومن سرقها؟
– لا أدري!!
· أتعتقد أنها هُرّبت الى خارج البلاد كما يحدث للنفط؟
ضحك كمن لم يصدق سخريتي وقال:
– ربما!!
هل نضحك على أنفسنا، أم نضحك على الناس المساكين الذين غاصوا بالقمامة.. غريب أمر هذه البلاد، تتحدّث عن الكراسي وتنسى صحة المجتمع وخلو البيئة من ما يجعلها موطناً للأمراض.. نحن لا نريد ان نتحدث عن الجو الملوّث ببقايا الأسلحة التي استخدمت في الحرب فهذه لن تنتهي على مدى عشرات الأعوام، فدراسات المنظمات المختصة بالبيئة تقول ان جو البصرة بصورة خاصة ملوث، واستغرب احد الناشطين في حقوق الإنسان مرة وهو يرى الناس هنا تعيش حياتها الطبيعية في وقت أن الإشعاع وصل حداً لا يطاق!!
نعرف جيداً أن الله معنا ولكن ليكن الناس مع بعضهم ويتكاتفوا من اجل بيئة صحية!
تحدثنا في البداية عن الخندق، وقلنا انها الأنظف بين أخواتها من مناطق المدينة، فكيف بنا اذا دخلنا الى الأحياء الشعبية في حي الحسين أو خمسميل او الساعي أو البصرة القديمة.. هناك سنجد ما لم يتوقعه عقل.
في منطقة الطويسة، تحدثنا مع بائعة للخضار، امرأة تجاوزت الخمسين من العمر، جلست على حافة الرصيف، تنشّ الذباب عن بضاعتها، قلت لها:
· من أين يأتي الذباب يا خالة؟
قالت:
– من هناك….؟
وأشارت إلى تل قمامة ليس بعيد عنها، والأغرب من ذلك أن جزاراً يعلّق اللحوم في باب محله المواجه لذاك التلّ..
· مَنْ يرمي الزبالة؟
– الناس.. أنا وأنت!!
· لِمَ يفعلون ذلك؟
– لا يوجد مكاناً لرميها إلا هناك.. لا توجد حاويات خاصة، ولا براميل..
· ولكنهم وزعوا على الشوارع براميل للزبالة؟
– هذه المنطقة لم تشملها البراميل..
· لماذا؟
ضحكت ثم قالت ساخرة:
– ( هو بس هذا روح أسأل عن باقي الخدمات.. لا ماء ولا كهرباء!!)
· مقترحات وحلول:
نحن نعرف جيداً أن البلدية تقوم بواجباتها فالمدينة كبيرة اذا قسنا حجم وأعداد العاملين فيها ولكن هذه المسؤولية أنيطت في المجالس البلدية في المناطق وتعاقد عليها مقاولون كثيرون ونرى كل يوم بأم أعيننا عمال البلدية يعملون في أول ساعات النهار ولكن ما إن تشتد الحرارة حتى يذوبون هنا وهناك، يتسلّون مع بعضهم بحكايات عن الراتب والبطالة وأشياء أخرى تحت فيء البيوت تاركين عرباتهم ومكانسهم وشوارعنا التي نتمنى ان نراها نظيفة!
الكلام الذي كان همساً صار اليوم جهراً، صار صراخاً من خلال اللافتات التي ملأت شوارع البصرة والتي تناشد الدولة على نظافة المدينة وتطالبها بأن تنفق الأموال لمصلحة المواطن.. تساؤلات كثيرة حملتها تلك اللافتات التي هي بالتأكيد ضمير كل فرد في البصرة.
نقترح ان تأخذ البلدية مسؤولية تنظيف المدينة بكل شوارعها وأنهارها وأزقتها ومناطقها ولا تمييز بين هذه المنطقة او تلك.. هذه يسكنها فلان وتلك يسكنها فلان!! وإذا اعتبرنا ان العاملين في البلدية لا يكفون لهذا العمل الكبير فلماذا لا توظف أعداد جديدة خاصة وان العاطلين علن العمل من أولادنا يملأون ساحة سعد وساحات المسطر في الحيانية والقبلة وخمسميل وباقي المناطق المنكوبة!
مسؤولية نظافة المدينة بالدرجة الأساس مسؤولية البلدية والا لماذا سمّيت بلدية أليس لهذا الاسم علاقة بالبلد؟! ها قد مضى أكثر من عام ونصف العام على سقوط صدام وتماثيله ومدننا تغرق بالنفايات، هل نسكت على هذه الحال حتى تصل النفايات إلى موائدنا وأسرّتنا؟
ومن أجل تطبيق نظافة المدينة على الحكومة أن تزوّد قطاع البلدية بالمعدات والأموال الكافية لتنفيذ هذا المشروع الكبير والخطير المتعلق بصحة المواطن، فنظافة البيئة يعني وقاية من الأمراض والوقاية يا سادتي خير من العلاج.
ليس لدينا غير هذا المقترح ونجده هو الأجدر والذي نحقق من خلاله غرضين الأول النظافة والثاني تشغيل عمال دائميين ليس مثل الذي يحدث الآن حين يشعر العامل انه مجرد عامل مؤقت لا علاقة له الا بالراتب الذي يأخذه اسبوعياً أو شهرياً ومن ثم لا تعنيه هذه المنطقة او تلك فهو ليس سوى مؤقت وهذا ما لمسناه وسمعناه من عدد من الشباب الذين يعملون الآن لدى مقاول التنظيف.
هذه مقترحاتنا، وهي حلولنا من اجل بيئة ومدينة نظيفة وصحية ومن اجل صحة عوائلنا فهل من مجيب؟! 

الحوار المتمدن-العدد: 1397 – 2005 / 12 / 12

Share: