صك غفران
(غرفة شبه مظلمة رجل بعقده الرابع يجلس على كرسي قرب نافذة تطل على الشارع، يمسك ورقة صغيرة بيده يبدو عليه الندم، بين حين وآخر يتفحص أذنيه ويحاول أن يستمع للأصوات في الشارع لكنه لم يستطع يخرج من جيبه هاتفه الموبايل، يتصفح بعبث يعيده الى جيبه، يلتفت نحو الساعة الجدارية في الحائط القريب منه لكنه سرعان ما يغض بصره عنها.. ينهض من مكانه ويحاول في حديثه أن يقنع نفسه إن ما فات لم بعد)
الرجل:
لا يهمني الوقت، الخروج من الزمان يمنحني بعض السعادة التي لم أرها من قبل.. كل ما لدي هذه الورقة (يشير الى ورقة بيده الأخرى) التي تسمح لي بالتجوال في المدينة، ورغم أنها تعتبر صكاً أمنياً يحترمه كل الحراس والمخبرين، الا أنها لا تشكل لي شيئاً مهما …
قلت لكم، لا يهمني الوقت، وكم أمضيت من السنوات أو الأيام ضيفاً في دهاليزهم.. (يبتسم) نعم كنت ضيفاً.. ولأني كريم جداً، منحتهم سمعي واكتفيت بالطنين الذي يملأ رأسي.. هناك (يشير الى البعيد) أو هنا.. لا أتذكر بالضبط، ثمّة ثقب كان في الحائط، هو كل ما بقي لي، وهو عالمي المطل على كل شيء.. تسألونني من أين جاء الثقب؟ أو من قام بثقبه…؟ أقولها وبكل شجاعة، لا أعرف من تركه أثراً في الحائط، (مستدركا) إلا إني أتذكر جيداً من قام بثقبي أنا.. (ينظر الى السماء) أنا الأنسي المثقوب.. ألم تروا من قبل إنسياً مثقوباً …؟ بثقة كبيرة أشك في ذلك أيضاً.. (بتمتة) عذراً فأنا كثير الشك، حتى أني لم أعد أثق بإصبعي هذا (يمد يده وهو يعدّ أصابعه) وهذا.. وهذا أيضاً.. (يرفع إبهامه وينظر له مبتسما) وسيدهم السمين هذا..
كنت مثلكم، آه، مثلكم تماماً.. طبعاً من حيث الشكل، لي رأس ويدان وعينان ولسان.. وكان لي اسم أيضاً.. نعم كان لي اسم. (يحاول أن يتذكر) ما هو ذاك الاسم؟ (يضرب على رأسه مرتين) أووه، نسيته.. لكني سأتذكره لاحقاً، لا يهم ما هو إلا أنه اسم قد لا يختلف عن أسمائكم، (يبحث في جيوبه ثم يتوقف) حتى بطاقتي الشخصية أخذوها مني، كل أوراقي صادروها، مثلما صادروا ذاكرتي، هم قالوا لي إنك لا تحتاج اليها ما دمت مطيعاً لنا، طيّعاً بأيدينا، أحياناً تراودني بعض الأحلام، أظنها من تلك الأيام التي مسحوها من رأسي.. أرى أبي وهو يحتضنني ببزته العسكرية، وبيريته المائلة الى اليمين، أشم رائحة البارود وهي تنبعث منها، في أحلامي أرى أمي وعباءتها المتروكة معلقةً في حائط البيت، أسمع أنّاتها تخرج من بين السواد، وصوتها المبحوح فرط البكاء وهي تدور حول القباب المذهّبة للأولياء.. تدعو… وتدعو.. صوت دعائها يصل الى السماء السابعة:
يا صاحب المقام،
يا من له جاه عند الله..
يا شفيعنا عند الله..
ارفع عنّا ثقل الأيام السود،
وخفف من وطء الظيم!
(بلهجة عاميّة/ دارجة)
(اجيتك شايله جروحي
واعرفك ما ترد روحي)
يا رب.. يا رب البطون الخاوية، والبيوت المظلمة.. والخيام المهترئة في صحاري البلاد، نحن أبناؤك فردّ الينا أبناءنا!
هكذا كانت تدعو أمي، يوم أصاب البلاد القحط.. غيابها زادني وحدة، وزادني حنيناً لأيامها.. (يصمت قليلاً) هكذا، أخذوا مني كل شيء، اختصروا كل عمري بهذه (يشير الى الورقة التي بيده) هذه.. أترونها؟! (يهز رأسه شاكياً) ورقة عدم تعرّض، هم يسمونها هكذا ومكتوب فيها هذا (يقرأ) ورقة عدم تعرّض.. (يضحك) ترى من يتعرضني غيرهم…؟ اعطوني إيّاها وقالوا لي: الآن يمكنك أن تذهب الى بيتك! (يبتسم بألم) بيتي!! طلب مني ذاك السمين الملتحي الذي يبدو ككتلة لحم نتنة أن أذهب الى بيتي.. لم يصدقني حين قلت له: أين بيتي؟ راح يضحك بسخرية، وجامله من كان حاضراً هناك.. ضحكوا كثيراً، حتى ظننت أن لعابهم سيغرق المكان. قال لي ذاك السمين الملتحي، وأعتقد أنه كان سيّدهم:
- خذ هذه الورقة، وستكون في أمان بالأيام المقبلة..
رمى عليّ الورقة، لكنها سقطت بين ساقيه، استسلمت له، دنوت لأخذها، الا أنه شد شعري بقوة بيده، وأنزل رأسي على حذائه صارخاً بي:
– قبّل حذائي، وإلعقة وإياك أن تلوثه بلعابك!
لحظة تقبيل الحذاء كانت ثمناً لورقة سخيفة كهذه (يشير الى الورقة التي يمسكها) ورقة لم يُكتب فيها شيء.. ليس سوى ختم أحمر بلون الدم يبدو كأفعى.. بهذه الورقة يشترون الناس، ويجبرونهم على أن يكونوا قطيعا بلا إرادة.. صرت أنا منهم (مؤكداً) من القطيع أقصد.. خرجت بالورقة الافعى بلا اسم، ولا سمع، ولا ذاكرة ولكن للحق أقول، لم أكن أنا وحدي بهذا الموقف، فهناك كثيرون يحملون ملامحي، وصوتي أيضاً.. ربما هم الآن يجلسون هنا بينكم… يرونني ويعرفونني جيدا.. (يحدق بالأمام بصعوبة ويشير بإصبعه) ذاك واحد منا نحن أصحاب الورقة الأفعى… (ينادي بصوت أعلى) هيييييه.. ارفع يدك.. أنت.. أنت.. لا.. لا.. ليس أنت.. لم أقصدك أنت، إنما ذاك الذي يجلس بجانبك.. ارفع يدك ليعرفك الناس.. ارفع يدك.. انهض واستقم.. لا تخجل.. ليس هناك ما يدعوك للخجل.. نحن قبّلنا الأحذية بإكراه.. لم نكن بإرادتنا، نحن أفضل من أولئك الذين يقبّلون كل يوم الأحذية.. ويصفقون للباطل، ويرقصون على صراخ المظلومين.. انهض يا اخي، لا أريد منك شيئاً سوى أن تنصرني، قف مثل وقفتي هذه وتكلّم.. اخبرهم ما حدث لك، أخبرهم واخرج ما في صدرك.. قل ما لديك، قل لهم إنه لم يكن وحده، أقسى ما يمر به المرء أن يشعر بأنه في المضمار وحيداً.. (بإصرار وتحدٍ) هيا يا أخي، لا تكن جباناً.. أعرف أنك وقّعت تعهداً لهم، وتبرّأت من كلِّ شيء، وأنك ستلتزم الصمت ما حييت، لكن عليك أن تكون وفيّاً لمن تركناهم هناك في الدهاليز المظلمة، انهم يحتاجون صوتنا.. من لهم غيرنا، نحن الذين تجرّعنا كأس الألم والذل ذاته، لم أطلب منك الا كلمة، هل نسيت ما كنا نردده هناك ونحن في الدهليز، إن الرجل هو الكلمة، هل تعرف من قالها، شرف الرجل هو الكلمة.. ألم نقل أن الكلمة مسؤولية… أين أنت منها وأنت تخفي رأسك بين الجموع.. (بيأس) حسنا، إن لم ترغب في ان تكون معي، وتكون مع أولئك الذين قالوا اذهب أنت وربك إنا ها هنا قاعدون لك هذا.. لكن ايّاك أن تنتظر وطناً يفتح لك بابه!
(يصمت قليلاً ثم ينظر في الأمام) ها.. أنتم، هل تسمعون ما أنا سامعه…؟ انصتوا.. انصتوا قليلاً، ثمة أصوات أشعر بها.. هل تسمعونها أنتم، لا تستغربوا هذا، أنا لا أسمع كما أنتم تسمعون! لا يهم كيف أسمع مع فقداني السمع، ليس من شأنكم معرفته، سواء صدّقتم أو لا تصدّقون، هذا لا يهمني، لكن ما من أحد يهمس همساً الا وأعرف ما يهمس به.. (يبتسم ويشير بأصبعه الى أمام) هناك من يصفني منكم بالبطران! هل تصدقون هذا؟ يقول أنا بطران.. نعم بطران، لأني أخبركم بما لم يخبركم به غيري.. بطران لأني أفتح عيونكم فيما لم تتوقعوه، وأحذركم منه.. (يصمت قليلا وكأنه يستمع) ثمة آخر يشفق عليّ ويقول عنّي: مسكين! (صارخاً) قلها بلسانك يا أخي، ولا تحدّث بها نفسك! كن شجاعاً وقلها، أنا لا أحتاج عطفاً من أحد.. أنا واحد من كثيرين عاشوا ما عشته.. ورأوا نجوم الظهر مثلي! (يبتسم بألم) ها.. الآن صدّقتم بأني أسمعكم.. هناك من يظنني عرّافاً.. لست عرّافاً، ولم أكن. وهناك من يظنني ممثلاً أجيد زخرفة القول، والتأثير على الناس.. لست ممثلاً، ولم أقل لكم إلا من حدث لي، وعشته بكل تفاصيله.. أعذركم إن لم تصدّقوني فما مررت به لم يخطر على بال!
حسناً يا سادة، لا يحق لي أن أشكو همي لكم، فأنتم بحاجة الى من يستمع لشكواكم لا أن يشكو لكم، أعرف جيداً أن السفينة التي غرقت بكم تركتكم أمواتاً، حتى صار بعضكم كتمثال، صم بكم عمي، ليس غريباً عنّا، فنحن في زمن العقول المتحجّرة.
في غرفة ذاك الرجل السمين ذو اللحية الكثة الذي حدّثتكم عنه، تركوني خمس ساعات، فكّوا وثاقي، وتركوني حرّاً.. الخمس ساعات تلك صارت أعواماً، كنت أحدّق في الساعة الجدارية التي بدت عقاربها مثل سيوف تحزّ رأسي.. بعد الانتظار الطويل فُتِحَ البابُ، ودخل الرجل ذاته ومعه مجموعة من الأوراق، وضعها على المنضدة الخشبية وجلس، كنت جالسا قبالته، راح يقلّب الأوراق، وبين حين وآخر يحدّق بي.. بعدما انتهى من الأوراق، رفعَ رأسَهُ وراحَ يوجه لي كلاماً بصوتٍ خفيض، (بسخرية) ولأن أذنايَ قد صادرها الأخوة في فعاليات الأيام والليالي الماضية، لم اسمعه.. كنت أراه كمن يشاهد فيلما صامتاً من افلام شارلي شابلن، حاولت أن أستخدم قدراتي في قراءة الشفاه لكني فشلت بسبب اعوجاج شفتيه، وربما بسبب اللكنة التي كان يتحدث بها.. جلست صامتاً ساكناً، كتمثال من طين ولأنه كان يرى نفسه أكبر من كل شيء، صرخ بصوتٍ عالٍ، وفي هذه المرة سمعته بصعوبة، وعرفت حينها تلك اللكنة التي لم أسمعها الا بعد أن أحضروني للفعاليات الليلية التي كان يقيمها تابعوه معي، كنت أراهم، وأسمع ضحكاتهم وحديثهم وأنا معلق بحبل سميك مربوط بالسقف.. كرر سؤاله بعدما دنا من أذني وبصوتٍ أعلى من الأول:
– ما الذي تكتبه في صفحتك بالفايسبوك؟
أجبته بسرعة:
– حسابي عندكم، وكل ما أكتبه هو بين أيديكم..
قال وهو يسحب إحدى الأوراق ويضعها أمام وجهي
– ما هذا؟
قلت له:
– كلام يقال..
– ما هو هذا الكلام الذي يُقال؟ فسّره لنا؟
– كيف أفسر المفسر يا سيدي؟
– حسناً سأقرأه لك، أنت كتبت الحياة قاسية، كثيرون فارقتهم، يا رب أرحمنا.. يا رب لِمَ لا تأمر عزرائيل أن يبتعد عنا.. من هو عزرائيل الذي تطلب من ربك أن يبعده عنك؟
صمتُّ ولم أقل شيئاً.. راح يدور حولي، وصرت مثل فريسة تنتظر مصيرها.. ضرب المنضدة بقوة، وتطايرت بعض الأوراق وصرخ مرة أخرى:
– من هو …؟
– معروف يا سيدي، هو قابض الأرواح، ومفرق الجماعات.. ملك صالح.
أطلق ابتسامة صفراء، بينما عيناه تتطاير شررا وقال وهو يلوك كلماته بخبث:
– هذا الظاهر، أما الباطن أريد أن أعرفه.. من يقبض الأرواح في زمننا؟
– أنا واضح يا سيدي، لا يوجد باطن فيما كتبت، صدّقني يا سيدي، لا أقصد إلا الملك الصالح الذي يعرفه كل الناس…
نظر لي بشزر، وأخرج من جيبه سيجارة، وقال وهو يضعها في فمه:
– ألم نكن صالحين بنظرك؟
– لم أقل هذا أبداً..
– لست غبياً لأصدقك! ألم يكفكم ما جلبناه لكم من خير؟ ألا ترى أن ما فعلناه لكم إصلاحاً ويستحق أن يشار له في صفحاتكم بدلاً من الخرط الذي تكتبونه؟ إنكم تكفرون بالنعمة التي حققناها لكم، تحاولون فيما تنشرونه أن تحرّضوا الآخرين.. أعرف أنك بتبريراتك هذه تريد أن تنقذ نفسك، أليس كذلك؟
رحت أردد مع نفسي:
– بل أريد أن أنقذك أنت!!
لا أعرف كيف يفكر هؤلاء، صاروا ينبشون بكل زاوية من حياتنا، يريدوننا أن نصبح نسخة منهم، نسبّحُ لهم، ونحمدهم، ونصلّي لهم أيضاً.. (يتوقف قليلا) استغفر الله، ما الذي أوصلنا الى هذا الحال.. (ينظر الى السماء) ربنا لا تؤاخذنا إن أخطأنا أو نسينا، فنحن بشر، والبشر مغلوب على أمرهم، لكننا نعلم جيداً ان لكل منا اخطاؤه، وما نختلف فيه عنهم، أن أخطاءنا تكشف على الملأ، بينما أخطاؤهم يتسترون عليها.. هكذا علمتني هوايتي التي أحبها، قد لا تصدقون، لكنها هواية مارستها منذ كنت في السادسة عشر من عمري.. صيد السمك (بثقة) كنت صياداً ماهراً، أرمي سنارتي في النهر، وانتظر سمكة غبية تلتقطها. أتعرفون ان البشر مثل السمك، هناك السريع وهناك البطيء، وهناك الذكي وآخر غبي، وهناك من يأكل الأصغر والأضعف منه، هكذا هي الحياة إما أن تؤكل أو أن تأكل.. وأنا بصراحة، من أولئك الذين يؤكلون، والنتيجة هذه التي ترونها، خرجتُ منهم بلا سمع ولا ذاكرة والحمد لله اذ سلمت على لساني وبصري. صحيح ان حياتنا نتاج اختياراتنا، وما اخترته لم يكن معقداً، فأنا بسيط وأحب البساطة في كل حياتي، لم أطلب شيئاً مستحيلاً، كل ما أرغب فيه أن أعيش كما يعيش الآخرون، لكن الآخرين الذين يدسّون أنوفهم بحياتنا لم يستأنسوا بما أنشره من أفكار وآراء.. وهو ما أدخلني الى دهاليز لم أكن أتوقع ذات يوم أن أكون فيها.
قال لي صاحب المقهى الذي أقضي فيه جل وقتي بعدما أطلقوا سراحي:
– سوء فهم وعليك أن تتقبل ذلك!
– ثلاثة أشهر قبل أن يفسّروا ما أقصده، أكان علينا أن ندفع ضريبة أحلامنا؟
هناك، في المكان الذي سُجنت فيه، جيء برجل في عقده الخامس، بقي يومين معي دون أن يتكلم، لكنه بعد يومين آخرين، وحينما رأى ما فعلوه بي، وتأكد بأني لست واحداً منهم زرعوه في الغرفة ليجترّ منه ما يمكن أن يفيدهم بالتحقيق، تكلّم… نعم. تكلّم بصعوبة بالغة.. قال لي: أنه يعمل محاسباً في شركة تابعة للقطاع الحكومي، وراح يسرد عليّ المصيبة التي جلبته الى هنا.. قال: كنت أخرج صباحاً للعمل وأعود بعد الظهر، وهكذا يمشي الحال سنوات طويلة إلا في ذاك اليوم النحس، حينما وجدت تلاعبا في بعض وصولات الشراء، ولكيلا أضع نفسي في موقف مشكوك فيه، راجعت مديري، وأخبرته بالأمر، الرجل بصراحة أثنى عليّ، ووعدني بانه سيوجه لي كتاب شكر وتقدير، قلت له:
– لا أحتاج الى الشكر يا سيدي، فهذا واجبي، أن أحافظ على المال العام..
هزَّ المديرُ رأسه وقال مبتسماً:
– كلنا حريصون على المال العام، أنه مسؤوليتنا…
خرجت من غرفة المدير بعد إن تركت الوصولات في مكتبه، وانتهى اليوم مثل كل الأيام، وفي اليوم التالي، وقبل أن أدخل الى الشركة، صاح بي فراش المدير، وهو رجل طيب، ومصاب في حرب الثمانينيات إصابة بالغة، الا أنه لم يحصل الا على ثلاثين في المائة بحسب التقرير الطبي، ما تطلب أن يستمر بالدوام…المهم، قال لي الرجل الطيب محذرا:
– إياك يا أستاذ أن تذهب الى غرفتك، عد من حيث أتيت الى مسكنك، أو اختر مكاناً آخراً لن يصل فيه أحد إليك…
استغربت من تحذيره، كما استغربت من التفاتاته بين حين وآخر، كأنه يخشى أن يراه أحد.. قلت له مستغرباً:
– ما الذي حصل.. إخبرني، أقلقتني يا رجل!
– سمعت المدير، وهو يتصل بأشخاص لم أسمع صوتهم، وطلب منهم أن يعتقلوك…
– وما الذي فعلته كي يعتقلونني…
– لا أعرف.. لكني حذرتك، لأني لم أجد فيك الا الطيبة والصدق…
قالها وذهب مسرعاً الى داخل الشركة.. وأنا ما بين مصدق، ومشكك بما قاله الرجل، دخلت الى الشركة لألملم بعض الأوراق، الا أني لم أستطع، فقد وجدتهم بانتظاري، وها آنذا هنا معك!
عندها، قلت مع نفسي: إن من يرى مصائب الناس تهون عليه مصيبته…ألم أقل لكم، أننا معشر البشر، مثل السمك، الكبير يأكل الصغير..
والان، أين تراني أن أذهب بهذه الورقة الهزيلة (يشهر الورقة بيده) صك غفران، الذي قال لي الرجل الخمسيني قبل أن أودعه، كنت محظوظاً في الحصول عليه.. هذا الصك كلفني حريتي في التعبير عما في داخلي، حذفوا كل حساباتي في التواصل الاجتماعي بالأنترنت، ووضعوا لي حساباً خاصاً مرتبطاً بهم.. صرت واحداً من الذباب الالكتروني، ذبابة بلا ضمير، ولا شرف، أنا الآن مسجون في تلك المساحة داخل هاتفي، أعيش في عالم مليء بالتناقضات والبهتان..
إما أن تكون في خانة بذيئة كهذه، وتصبح رقماً ونكرة وأداة، أو أن لا تكون لتواجه مصيراً محتوماً. هذا بعض ما يريدون، أن يأكل بعضنا بعضاً.. نشكك في أنفسنا، ونبيعها في سوق الغدر!
(ينظر الى الورقة التي بيده) أما هذه، فلا أجد لها مكاناً إلا هنا.. (يمزقها ويرميها في سلة القمامة).. الآن أشعر بأنني تحررت، لا أوراق ثبوتية ولا سمع ولا ذاكرة.. يكفي أن لي فسحة من الحلم، أحلم بها كما أشاء بعيداً عن تلك العيون الوقحة.
اظلام- ستار
البصرة ١٨ أيلول ٢٠٢٤
اترك تعليقا