العرض الأخير لعباس الصغير

احتفالية بأربع لوحات

الشخوص:

١- عباس الصغير (بائع السيوف)

٢- الأول

٣- الثاني

٤- الثالث

٥- المجموعة

اللوحة الأولى (بانتظار الذي ضاع)

مكان عام، مجموعة من الممثلين وهم يتهيأون لتقديم عرض مسرحي، الأول يدور حول المكان وكأنه يبحث عن شيء ما، أو أنه خائف من شيء.. الثاني والثالث ينظران له بإندهاش، المجموعة ينقسمون الى قسمين ويتخذون طرفي المكان..

الأول: (صائحاً) هو خلفكم، حيثما ذهبتم، يتبعكم مثل ظل لكم، لا مهرب منه، تهربون فيتبعكم، تنامون فيغفو فوق أجسادكم، إيّاكم والشكوى..

الثاني: (دون اكتراث) الشكوى لغير الله مذلّة..

الأول: صرنا نشكو لمن هو ادنى منه..

الثاني: دعك من الشكوى، وتعال هنا، إخبرنا، ألم يأتِ..؟

الأول: (وكأنه يستعيد أنفاسه) هذه ليست شكوى يا صاحبي (مبتسماً) هذا جزء من الحوار المكتوب لي، حفظت بعضه عن ظهر قلب..

الثالث: (يشير الى الثاني) هو لم يسألك عن حوارك هذا، هو يسألك عنه، ألم يأتِ..

الأول: لا تسألانني عن ايّ احدٍ، عليّ أن أردد الحوار كي أحفظه جيداً فمستقبلي، كما هو مستقبلكم ايضاً، مرهون بما حدد لنا من أدوار..

الثاني: ومستقبلنا مرهون به ايضاً..

الأول: نعم، قلت هذا لكما هذا مستقبلنا جميعاً مرهون به..

الثاني: لا نسألك عن المسرحية، نحن نسألك عنه، متى يأتي؟

الثاني: حتى يجيء علينا أن نعدّ أنفسنا جيداً، لا يمكن أن نبقى محصورين هنا هكذا بين صائح ونائح!

الثاني: (مصفّقاً) ما شاء الله صرت تجيد السجع وتخطئ بالألفاظ..

الأول: (باستهزاء) اية ألفاظ أخطئ بها يا سيبويه؟ ليكن في علمكم أنتم جميعاً (يشير الى الجميع) أنا لا أخطئ أبداً..

الثاني: حسناً، أنت لا تخطئ أبداً، وأنت خارج المنطوق، نعرفك جيداً، لست من البشر ذلك لأن كل ابن آدم خطّاء….

الأول: (بصوت عالٍ) إلا أنا… تستطيعون أن تجربونني..

الثاني: (ضاحكاً) جرّبناك وما بين تجريب وتجريب ضعنا وصرنا بضاعة يبيعون ويشترون بنا.

الثالث: وهل هذا كل شيء..

الأول: وهل بقي شيء لم يبعه هذا وذاك؟

الثاني: وهل بقي شيء لم نجربه؟

الثالث: جرّبنا كل شيء، الفقر….

المجموعة: (بصوت واحد) جرّبناه!

الأول: الذل..

المجموعة: جرّبناه!

الثاني: القهر..

المجموعة: جرّبناه!

الأول: وماذا عن الحكم..؟

المجموعة: جرّبــــ……. (يتوقفون قليلا ويحدق واحدهم بالآخر، يشيرون الى مؤخراتهم ضاحكين) جرّبوه بنا..

الثاني والثالث: (يضحكان مع المجموعة)

الأول: (غاضباً) تضحكون أمام الناس بينما قلوبكم تبكي، تبقون معلقين في دائرة النفاق، هل بقي شيءٌ تعلّقون آمالكم به..؟

الثاني: بلا، بقي.. لكننا لا ندركه..

الأول: لا أعتقد ذلك.

الثاني: إتعب نفسك في التفكير وستعرف أن شيئاً هناك لم يصلوا اليه..

الأول: أنت تكذب علينا، تريدنا أن نفكر وتشغلنا عن أدوارنا..

الثالث: اتعب نفسك يا أخي، حرّك ذاكرتك واسأل نفسك.. ما الذي يجعل منّا أن نكون خرافاً بلا حول ولا قوّة..

الأول: التفكير يأخذ منّا كثيراً من الوقت ونحن لا وقت لدينا..

الثاني: سلّمناهم رؤوسنا وكل ما فيها من تفكير وذاكرة، فراحوا يلعبون بنا كما شاؤوا.. يغيّرون في تواريخنا وكل ما احتفظنا فيه مما يشعرنا بوجودنا، هم يطمسون ذاك التأريخ بخرافاتهم وأساطيرهم.

الأول: (يضحك) كأنك لا تعرف ما نحن فيه، ما الذي تريد أن نفكّر فيه، أو أن نقوم به، نحن مجرد أرقام في طابور هذه البلاد.

الثاني: هذا ما كان ينقصنا، التفكير…

الأول: لا حاجة لنا به ما دام هناك من يفكّر بدلاً عنّا..

الثالث: ويرسم لنا مساراتنا..

الثاني: ومصائرنا..

الأول: لنطوِ هذه الصفحة، الناس ينتظرون منّا أن نقدم لهم المسرحيّة..

الثاني: أووه، لقد نسيت أوراق النص في المنزل..

الثالث: وأنا مثلك، اعتمدت عليك ولم أحضره معي..

الأول: هكذا انتم دائماً.. واحدكم يعتمد على الآخر، والنتيجة، تأخذكم الحيرة فلا  تستطيعون أن تقدموا عملاً للناس..

الثاني: لا يهم ما موجود في النص، المهم أننا نستطيع أن نرتجل المسرحية، فالأمر بسيط جداً، كل ما في الأمر، أن نجسّد أنصع صور البطولة..

المجموعة: (يقومون بحركات مبارز ة بالسيوف فيما بينهم)

الأول: (يضحك) 

الثاني: (مستغرباً) هل قلت ما يستدعي الضحك؟

الأول: (ما زال ضاحكاً) قلت تريدنا أن نجسّد البطولة بانصع صورها.. كيف نجسدها بأجسادنا المرتجفة وبفزعنا، أتريدنا أن نعوّض ما ينقصنا على خشبة طالما صدحت بصوت الحقّ!

الثاني: كل شيء يصح في التمثيل، الفقير يمكن أن نراه غنيّاً.. والخائن يمكن أن يكون مثالاً للوطنية.. ما هي الا فرجة نقدمها للناس وننهيها ونقبض بعدها!

المجموعة: إي نقبض.. نقبض..

الأول: تقبضون من دبش!

المجموعة: (يضحكون)

الأول: ما الذي تقبضونه غير ضحك الجمهور عليكم..

المجموعة: (ما زالوا يضحكون) يضحكون علينا… هههههه…. يضحكون ويضحكون.. يا لها من مهزلة..

الثاني: نحن ننسي الناس تعب النهار .. دعهم يضحكون فلن يؤثر ضحكهم فينا ما دمنا سنقبض..

المجموعة: إي نقبض.. نقبض.. يا سلام، سنقبض (يرقصون)

الثالث: (بأداء انفعالي) يا قوم… يا قوم.. توقفوا..

المجموعة: (تتوقف عن الرقص)

الثالث: كيف سنقدم صور البطولة دون سيوف…

الثاني: أووه، لقد نسينا السيوف.. أين السيوف..

المجموعة: (يبحثون في زوايا المكان)

الأول: ألم تقل لنا أنك ستذهب الى بائع السيوف لتأتي بها؟

الثاني: اعتمدت عليكم، وأصلاً، أنا لم أقل سأذهب لوحدي، بل قلت سنذهب الى بائع السيوف..

الأول: السيف أصدق أنباءً من الكتب..

الثاني: (ينظر اليه مستغرباً) 

الأول: (يصمت)

الثاني: أعد ما قلت يرحمك الله!

الأول: (باستخفاف) ورحمك أيضا يا أخا العرب!

الثاني: أعد ما قلته للتو.. سمعت منك أن السيوف اصدق من (يفكّر) لا يهم، أنا لم اسمع الباقي من قولك.. اصدقُ من مَنْ..؟

الأول: (ينظر له مبتسماً) الأمر لا يعنيك..

الثاني: كيف لا يعنيني، ألم أكن أنا عبد الله بن الزبير في المسرحية، كيف سأواجه جند الحجاج بدون سيف.. هل أقاتلهم بيديّ الفارغتين هاتين؟

الثالث: ونحن أيضا نحتاج الى السيوف، هل نستخدم العصي بدلاً عنها؟

الأول: إن كان همّكم أن تقبضون فاستخدموا ما شئتم..

الثاني: هذا لا يصح، كيف نخرج الى الناس بسيوف من خشب.. لابد من سيوف حقيقية ليكون العرض واقعياً..

الثالث: هذا هو ما أفكّر فيه.. أحسنت..

الأول: حسناً، لكي نوقف الجدال علينا أن نذهب جميعنا الى عباس الصغير..

الثاني: ومن هو عباس الصغير؟

الأول: هو بائع السيوف، ألم تسمع باسمه؟

الثاني: (بعد تفكير) عباس الصغير، وهل سيوفه قصيرة أيضاً؟

الأول: هذا اسمه لكنه كبير بما يستحق. لنذهب له الآن..

المجموعة: (يرقصون وهم يغنون) يا سيفنا لو زرتنا لوجدتنا، نحن السيوف وأنت قرص النارِ!!

-اظلام-

اللوحة الثانية (كفن واحد لا يكفي)

(دكان عباس الصغير، أكفان معلقة تكاد أن تغطّي كل أركانه، الصغير جالساً في عمق الدكان، يدخل الممثلون الثلاثة وتتبعهم المجموعة)

الثاني: (الى الأول) هل ترى سيوف صاحبك؟

الأول: قلت لك ليس صاحبي.

الثاني: لا يهم هذا، ولكن أين هي السيوف؟

الأول: لا بد أن تكون موجودة في مكان ما، ربما خلف تلك الأقمشة..

الثالث: (مستغرباً) لماذا يخفيها خلف القماش؟ كان عليه أن يضعها في واجهة دكانته ليراها المتبضعين..

الثاني: (يلكزه) كيف يضعها في الواجهة، هل تريده أن يتورط؟ 

الثالث: ولماذا يتورط؟ هو يبيع ولا أي ورطة في هذا..

الثاني: وما الذي سيحصل برأيك لو حدث عراك في هذا الشارع؟ ألا تتذكر يوم حصل خلاف بين امراتين قرب دكان بيع النعل؟ كنت أنت معي يومها ورأيت ما رأيته، يومها وصل النعال الى رأس الشارع!

الأول: (يهزّ راسه) ربما رأيك مقبول، أنت تحلل الأمور بشكل مقبول.

الثاني: (بفخر) هذا اعتراف صريح منك باني عبقري المسرحية..

الأول: حسناً يا عبقري، قل لي: أين كنت أنت يوم عراك النعل؟

الثالث: (ضاحكاً) كنّا نحصي عدد النعل التي طارت في الهواء..

الثاني: (يتأفف) كان يوماً عصيباً.

الأول: ألم يصبكما نعال منها؟

الثاني: بل قل اثنتين، (ضاحكاً) واحدة هنا (يشير الى كتفه) وأخرى هنا (يشير الى عجيزته) لكنها من فردة واحدة ولم استفد منها..

الثالث: (ما زال يضحك) أما أنا فلم يصبني نعال.. كنت أختبئ خلف صاحبي..

المجموعة: (يضحكون وهم يقومون بحركات غريبة ويرددون) 

                   هذا أحلى من خيال…

                  ليته صار القتال..

                  هكذا ضرب نعال

                  وصراخاً في اعتدال

                  هذا أحلى من خيال!!

(عباس الصغير ينهض من مكانه ويقترب منهم)

عباس الصغير: أيها السادة…

المجموعة: (يتوقفون، ويحدق بعضهم ببعض) يقول ايها السادة.. (يلتفتون يميناً وشمالاً) اين السادة.. 

عباس الصغير: (يبدو عليه الامتعاض) انتم، ما الذي اخدمكم به؟

الأول: (معتذراً) عذراً سيدي، لا عليك منهم، جئناك لنشتري مما عندك؟

عباس الصغير: (يتفحصهم جميعا) ما شاء الله، هذه أول مرة يأتيني رزقٌ بالجملة!  

الثاني: نحتاج يا سيدي لعشرة فقط.

عباس الصغير: ما أكثر موتى المدينة!

الثاني: هل ترانا أمواتاً يا سيدي؟

عباس الصغير: سبحان الذي لا يموت، أنت قلت انكم تريدون عشرة..

الثالث: عشرة بنفس الطول والقوة.

عباس الصغير: الموت لا يفرّق ما بين قويّ وضعيف. 

الأول: دعك يا سيدي مما يقوله هذا (يشير الى الثالث) لا نريد أن نشغلك، بعنا ما عندك.

عباس الصغير: (يمسك بأحد الأقمشة) من أيّ نوع تريدون، لدينا أنواع مختلفة وكلّ بحسب سعره ونوعيته..

الثاني: لا يهم، نشتري منك ارخص ما عندك..

عباس الصغير: (يشير الى قماش في الزاوية الأخرى) ذاك ارخص ما عندي.

الأول: ألست أنت عباس الصغير بائع السيوف؟

عباس الصغير: نعم هو أنا، لكني توقفت عن بيع السيوف، ألا ترون؟ صرت الآن أبيع الأكفان..

الثالث: يا ساتر، توقفت عن بيع السيوف وأنت الآن تبيع الأكفان.

عباس الصغير: كما ترون، هذه هي الأكفان التي ابيعها..

الثاني: لكننا نحتاج الى سيوف، ما الذي نفعله بأكفانك؟

عباس الصغير: بيع السيوف في هذه البلاد تجارة خاسرة!

الأول: لكننا نحتاجها، إعطنا ما بقي منها في مخزنك..

عباس الصغير: لم يبقَ سيف واحد عندي، حولتها كلها الى محامل للاكفان، ما حاجتي للسيوف إن لم أجد سوقاً لها..

الثاني: نحتاجها للتمثيل يا سيدي.

عباس الصغير: أيّ تمثيل هذا؟

الأول: (الى الثاني) أنا أفهمه.. (الى عباس الصغير) أننا يا سيدي مجموعة ممثلين، لدينا عرض مسرحي نقدمه للناس في ذاك المسرح القريب من دكانك.. نلتمسك أن تجد لنا سيفاً أو إثنين و نعدك بأنك ستكون أول المتفرجين ودخولك للمسرح مجاناً..

عباس الصغير: (مبتسماً باستهزاء) السيوف التي صالت وجالت في ساحات الوغى تريدونها هناك، في المسرح، سيف عنترة بن شداد العبسي، سيف علي والحمزة وخالد بن الوليد، سيف القعقاع بن عمرو التميمي وسيوف الأبطال الذين لا عدّ لهم.. تلك هي السيوف التي نحتاجها.. (يتأفف) يا له من زمن غريب، زمن العجائب هذا، زمن رديء، يجعل من السيف فرجة.. يا الله، مُذ وضع السيف في غمده ونحن نجترّ هزائمنا، ونبكي على زمن ضاع منا وضعنا معه..

الثالث: (بتوسل) يا سيدي، لا يهمنا نحن فيما كانت عليه السيوف بالأمس، نحن أبناء اليوم، ونحن في ورطة والناس تنتظرنا..

عباس الصغير: توهمون الناس بقوة لا أساس لها، لك حكمة يا ربِّ انك جعلتني أعيش في هذا الزمن حتى أرى هذا.. لم ارَ أحداً في حياتي أهان السيف اكثر منّا حتى غدونا مثل ببغاوات نردد ما يريدونه منّا. 

الأول: لك الحق في كل ما قلته يا سيدي ولكن لنا عملنا ولك عملك.. أنت تبيع ونحن نشتري!

عباس الصغير: أنا لا أبيع إلا الأكفان.. إن أردتم كفناً بعتكم أيّاه..

الثالث: يا ساتر! فأل سيئ..

الثاني: هل هي تجارة رابحة أكثر من تلك؟

عباس الصغير: حين ينتهي زمن الفروسية والبطولة لم يبقَ إلا زمن الموت!

الثالث: يا ساتر! زمن الموت؟ (الى عباس الصغير) ارجوك لا تردد هذا يا بائع السيوف..

عباس الصغير: (صائحاً به) لست بائعاً للسيوف، أنا بائع أكفان!

الثاني: حسناً يا بائع الأكفان، لديّ فكرة..

الأول: (هامساً به) ايّ فكرة سخيفة ستطرحها عليه..

الثاني: (بصوت منخفض) لا عليك، أنا عبقري الفرقة سترى كيف أقنعه ليخلّصنا من ورطتنا، ألا ترى أنه أقفل الأبواب في وجوهنا؟

الأول: ما هي فكرتك..

الثاني: اطمئن، ستسمعها الآن..

عباس الصغير: اسمعني فكرتك يا رجل، ما الذي تريد أن تقوله؟

الثاني:  قبل كل شيء عليك أن توافق على شرطي (مؤكداً) هو شرط واحد لا غير!

عباس الصغير: لست في موقف تملي عليّ فيه شروطك..

الثاني: (بدهاء) لكنك ستستفيد..

عباس الصغير: إن كنت تريد سيفاً فأنسَ هذا.

الثاني: كيف أنسى هذا وهو لبّ الفكرة.. إسمع يا بائع السيوف.

عباس الصغير: (صارخاً به) ألف مرة قلتها لكم، أنا لست بائع سيوف.

الثاني: ها.. نسيت يا بائع الأكفان، إصبر عليّ فانا كثير النسيان، إسأل اصحابي فهم يسمونني الناسي (يضحك) لكثرة ما انسى طبعاً.. تصوّر أني نسيت أوراق المسرحية في بيتي..

عباس الصغير: وتريدني أن أصنع  لك سيفاً.. أليس كذلك؟

الثاني: ها أنت ذا قد عرفت محتوى الفكرة، إصنع لنا سيوفاً بعددنا، ومن أيّ مادة كانت لا يهمنا قيمة المادة التي تصنع منها السيف المهم أن نحصل على شيء شبيه بالسيف الحقيقي ومقابل هذا سنبيع لك كل هذه الأكفان…

الأول: (هامساً به) هل تريدنا أن نبيع الأكفان؟

الثاني: (يغمز بعينه) للإقناع فقط.. بدون هذا لن يوافق الرجل على العرض.

عباس الصغير: السيوف تحتاج الى أيدٍ قويّة.

الثاني: (يرفع يده في وجهه) ونحن أيدينا قويّة ايضاً، انظر هذه يدي، إمسكها جيداً وقل لي رأيك.. أليست قوية؟

عباس الصغير: سمك اليد ومتانتها لا يدل على قوتها، قوّة من يمسك سيفاً هنا (يشير الى رأسه) والحكمة هنا ايضاً..

الأول: للحق أقول، لم ألتقِ ببائع بمثل فصاحتك!

عباس الصغير: لم يبقَ منّا الا فصاحة اللسان فهي تذكّرنا بما سلبوه منّا.

الثاني: خلّصنا يا رجل، هل قبلت بالعرض الذي قدمته اليك.

عباس الصغير: اذهبوا لغيري ربما تجدون عنده ما أردتم!

الثاني: لكنك بائع السيوف الوحيد في هذه البلاد..

عباس الصغير: (غاضباً) لست بائع سيوف…

الثاني: ها.. لقد نسيت!

المجموعة: (تتحرك بين الأكفان وهي ترقص) 

                في كلّ زمان ومكان

                ثمّة أكفان!

                فصّلناها لك يا إنسان..

                لتبدو أجمل إنسان!

                زمنٌ يمضي، زمنٌ يأتي

                لم يبقَ إلا الخذلان

                ما بين الماضي والحاضرِ

                ضعنا!

                 وضيّعنا الأوطان.

-اظلام-

اللوحة الثالثة

ذاكرة مثخنة بالألم

(عباس الصغير أمام كورة نار لصنع السيوف، يمسك مطرقة بيده، ينظر لها ويتحدث مع نفسه..)

عباس الصغير: أنا بائع السيوف، كنت بائعاً للسيوف، حتى نسى الناس إسمي وراحوا ينادونني بهذا، بائع السيوف، ويعلم الله كم هو وقع هذه الصفة في نفسي، حتى يوم غيّرت مهنتي، وصرت بائع أكفان، لم ينسوا مهنتي القديمة، بائع السيوف، هم يلومونني لأني غيّرت تلك المهنة المجيدة، وتوقفت عن صناعة السيوف، لكنهم لا يلومون من تخلّى عن سيفه، وترجّل عن صهوة فرسه، ورضى بالوهن والخوف والقلق. كم أكلت النارُ أصابعي، وأحرقت شظايا الحديد وجهي، للآن صوت طرقات هذه المطرقة في رأسي، طاق… طاق… طاق، يطاوعني الحديد وتمنحني النار من قوتها.. وحين أرى فارساً وهو ممتطي فرسه، حاملاً سيفه، أستأنس كثيراً، وأفرح.. لكنني الآن، وأنا حبيس الأكفان، لا أجد متعة في العيش بزمنٍ تغيّر فيه كل شيء، لم يبق في رأسي إلا تلك الأيام، آهٍ لتلك الأيام المضيئة، أيام الأندلس التي ضاعت.

                              -اظلام- 

اللوحة الرابعة

وداعاً غرناطة

في ربوة مرتفعة تطل على غرناطة، يقف الأول وخلفه الثاني والثالث والمجموعة.. 

الأول: حسناً، لنبدأ العرض!

الثاني: كانت فكرتك لتغيير المشهد رائعة، فالشخصية الأولى، وأقصد شخصية عبد الله بن الزبير تحتاج الى سيوف، أما هذه فلن نحتاج فيها الى سيوف..

الأول: ستكون أنت آخر الملوك في الأندلس.

الثاني: لكنك أنت قلت لي بأني سأمثّل دور شخصية أخرى.

الأول: أرى أنك تصلح لدور أبي عبد الله محمد آخر ملوك بني الأحمر!

الثاني: لست بالضعف الذي كان عليه..

الأول: قلت ستمثّل. ستخرج من هناك (يشير الى جهة أخرى) ومعك حاشيتك (يشير الى الثالث والمجموعة) تقف لتلقي النظرة الأخيرة الى مدينتك..

الثاني: أكيد بدون سيف فقد استسلمت للافرنج..

الأول: هكذا كان حال أبي عبدالله محمد آخر الملوك..

الثاني: وهل سنبقى على تلك التلّة..

الثالث: (ضاحكاً) الى متى يبقى البعير على التلِّ..
الثاني: (غاضباً) لست بعيراً، أنا ملكٌ..

الثالث: سلّمت دولتك الى الغرباء ولم تستطع أن تدافع عنها، انزويت مع شهواتك وملذاتك وضاع الملك منك وضيّعت الناس معك.

الثاني: لولا الخيانات لما حصل ما حصل، أليس من حقّي أن ابكي مدينة صباي وعرشي في غرناطة..؟

الثالث: إبكِ كما النساء مُلكاً لم تحافظ عليه كالرجال.

الثاني: (بغضب) أنت تهينني!

الاول: هذا ليس قوله هو، إنما هو ما قالته أمّك (مستدركاً) أقصد أم الملك الذي خسر ملكه.

الثاني: لا يصح أن يتحدث هذا (يشير الى الثالث) بما لا يليق عن أحدٍ لا يعرفه.

الثالث: كيف لا أعرفه، أنا أعرف كل حكايته.

الثاني: لكنك لم تعاشره!

الثالث: وكيف تريدني ان أعاشره وجدي السادس عشر لم يولد في زمانه؟

الأول: أنتما تخوضان في التأريخ، وما من حكاية فيه إلا وفيها غرض..

الثاني: كتبه ثقاة العرب.

الأول: بل كتبه من له مصلحة بهذا أو ذاك، يقرّب من يرغب فيه ويبعد آخر.

الثاني: هذا تجنٍّ على من كتب تاريخ الأمة.

الأول: ايّة أمة؟ هذه التي تقاتل بعضها تسمّيها أمّة؟

الثاني: أفكارك مثل السم على العقول!

الأول: الحقيقة مُرّة لهذا سكتنا عن قولها.

الثالث: أنتما في جدالكما هذا تنسياني حواري، لنهتم بما مكتوب في النص ونترك الشكوك بالتاريخ جانباً..

الأول: بعد ضياع الأندلس بدأ التردي، وأكلت من جرفنا النزاعات والشهوات والأطماع، كل الأدوار التي نقدّمها، والشجاعة التي نصوّرها للناس، ما هي الا ضحك على أنفسنا.. البطولات راحت مع أصحابها، قطعوا اوصالنا، واصبحنا جمهوريات وممالك ودولاً ومشايخ وسلاطين، ومن كان بالأمس تحت أيدينا صرنا ننحني له ونقبّل يديه ونطيعه.

الثالث: إذن لنبحث عن صورة مشرقة أخرى نقدّمها للناس.

الأول: لا نريد أن نجترّ الماضي، فلنعش في الحاضر فهو الذي يهمّ الناس..

الثاني: هل نشرك الناس معنا.. اتريدنا أن نمزق أوراق النص ونرتجل..

الأول: هم بالأصل معنا، فنحن نقدّم ما يعيشونه، هم من يصنع الحدث حتى وإن لم يكونوا فاعلين!

الثالث: سواء نبشنا الماضي، أو التصقنا بالحاضر، كلٌّ سواء.. ذات الخديعة ونفس الأفعال تتكرر وإنْ تبدّلت الوجوه!

الثاني: نحن محاصرون بالوهن، نحتاج الى مَنْ يعيننا..

الأول: (بثقة) لا خير فينا إنْ لم نعتمد على أنفسنا (الى الثاني) أتريدنا أن نستعين بالغريب بعدما باعنا القريب؟

الثاني: لدينا ما يكفي من الثروات لنستغلها في الكفّ عن دفع أولادنا الى آتون الموت.

الثالث: (هاتفاً) لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى

                     حتى يراق على جوانبه الدم

الأول: أنت مفتونٌ بإراقة الدم (صارخاً به) الى متى ننزف، ألم تشبع يا أخي من الموت؟ ألم يحن الوقت لنفكّر بمستقبل أبنائنا؟

الثالث: كل جيلٍ يحملُ وزرَ جيل سبقه!

الأول: أتريدهم أن يلعنوننا..

الثالث: هي ذي سنّة الحياة!

(يدخل عباس الصغير حاملا مجموعة من الأكفان)

عباس الصغير: ياقوم.. ياقوم..

(الجميع ينظرون له باندهاش)

الأول: ها قد جاء فصيح البلدة.

الثاني: (الى عباس الصغير) ما الذي جاء بك يا رجل، نحن لم نبدأ بعد المسرحية..

عباس الصغير: (يرمي الأكفان على الأرض) ليأخذ كل واحد منكم كفنه، وما يبقى وزّعوه على الناس في القاعة.. 

(المجموعة يأخذون الأكفان ويرتدونها ويوزعون بعضها على الممثلين وآخرون يتقدمون الى الجمهور يوزعون عليهم بعض الأكفان وهم يرددون)

المجموعة: في كل زمان ومكان

                ثمّة أكفان..

            فصّلناها لك يا إنسان

            لتبدو أجمل إنسان!

            زمنٌ يمضي، زمنٌ يأتي

            لم يبقَ إلا الخذلان..

            ما بين الماضي والحاضر

            ضعنا وضيّعنا الأوطان!

        (اظلام- ستار)

انتهت في ١٢:١٠ صباح يوم ٢٠٢٤/١٠/٦ البصرة

Share: