لزوميات خمسميل وآصرة القصائد والحكايات- عبد الكريم العامري

ما نجده اليوم لن نراه غداً، إني أعيش دائماً من أجل غد، هكذا تتحدث (إيرينا) بطلة مسرحية الضائع للكاتب الايطالي توما سومونيجللي، وهذا ما يخبرنا به ديوان الشاعر علي الامارة (لزوميات خمسميل- قصائد وحكايات).. فالشاعر السارد يرسم لنا بريشة فنان عالماً مادته النار والماء وعذابات طفولة شائخة، وهو يدعونا لدخول عالمه الفانتازي لنرى ما رآه من يقين بأن (أسطع ما في الضوء ظلماء) صُنّف على وجه الغلاف الأول، نجد أن الشاعر قد أحال جنس (كتابه) الى نوعين أدبيين جمعهما حرف العطف (الواو) مشيراً إلى أنهما اتخذا موضوعاً واحداً ليكوّنا ميثولوجيا المكان والرموز، إلا أن ما يعنينا هنا هو: هل من ضرورة لوجود الحكايات في عمل قام على قصائد هي قصائد العمود تختلف في إسلوبيتها، وفنيتها، وخصائصها عن هذا الجنس؟ فما الذي دفع الشاعر إلى أن يستخدم في بنائه جنسين أدبيين ومادتين لا يمكن مزجهما في دورق واحد، وهل نجح الشاعر في احتوائه لموضوعته كما أراد لها؟
ان أسئلة كهذه تدفعنا لعدة قراءات، فنكتشف ان ضرورة وجود الحكايات، رديفاً للقصائد في الديوان، قد حتمتها ذاكرة الشاعر، وفضاء القصيدة، وقدرتها على ايصال الموضوعة إلى القارئ، حيث لم يكن وجود الحكاية (هنا) وجوداً تفسيرياً هامشياً.. بل هو إضاءة فعّالة، ومتنٍ ثانٍ لنصٍّ قائمٍ بذاته.. قد تسهم-أي الحكاية- في الوصول إلى مناطق ليس للقصيدة القدرة على الوصول إليها، لما يمتاز به السرد من فضاءات مفتوحة، وحرية أكبر، لاسيما وأن الشاعر قد ألزم نفسه باللزوم الذي هو (جحيم اللغة) وهو( قنص شكلي ضيق يصعب التحرك فيه وبه) ومن هذه الصعوبة جاءت ضرورة الحكايات، ولكن هذا لا يعني أن تلك الحكايات ستكون بديلة عن القصائد، أو مفسّرة لها، فالحكايات ليست قاموساً يعيننا على تحسس مسارات الموضوع، ولم تكن كذلك، إنما أراد الشاعر/ السارد أن تكون منجزاً أدبياً له خصائصه وفنيته، وأن يقرّبنا من منطقة الشعر الصعبة من خلال قاسم مشترك مستخدماً المفارقة، والرمز والمجاز.. فالأسماء/الرموز تسبح في عالمي القصيدة والحكاية، وهي شخوص عاشت حياتها، وتناقضاتها، وهمومها، في زمن مدفون حيث الطاعون والكوليرا وحرائق القصب، والقطارات التي لن تجيء، والجوع والقحط والدسائس والانفاس والشقاوات، فهنا منصور خير الله وصديقه عودة حسين وأم أوس ووهب واسماعيل رفعة وعبود البرق وعقيل ودعبول وآخرون، حفروا ملامحهم على قاع (خمسميل)، ففي عالمهم تختلط الحياة بالموت، فمنصور يبني بيتاً بجانب المقبرة من تراب الموتى الأوائل، وتلك أم دعبول النوّاحة التي تندب الموتى تموت حال سماعها خبر موت إبنها الوحيد.. إن الحكايات هنا تؤجج الفعل الدرامي للقصائد، وتفتح مغاليقها وتغذيها وتنعشها، وقد نجح الشاعر في تحقيق معادل موضوعي بينهما (الحكاية/ القصيدة)، ففي الوقت الذي يتناول فيه موضوعته في الشعر بجدية بالغة، وتراجيديا تزداد كثافة كلما تصفحنا قصائد/ لوحات الديوان، نراه يحيلنا إلى اتجاه آخر مغيّراً بوصلة الحزن إلى ما هو فكه بأسلوب سردي ( تراجيكوميدي) يحمل دلالات تشير إلى جحيم أرضي كان يغطي في يوم ما قاع المدينة، فنكون أمام آصرة لا يمكن فكها أو إلغاؤها، تلك التي تربط ما بين القصيدة والحكاية، وهي آصرة تأخذ شحنتها من تداعيات الشعر في كل لوحة من لوحات الديوان أي (قصائده) والنثر الذي جاء على شكل حكايات انتهت بمظروف رسالة ص (١٠٥) حمل تاريخاً هو ليس بالضرورة تاريخاً للكشف، بل هو تاريخ للتدوين، فالأول احتفظت به ذاكرة الشاعر تأسيساً على شكل حكايات تناثرت هنا وهناك، بينما الثاني كان زمن تدوين الأفكار على صيغة شعر، وهو زمن القصائد، ومن هذا نرى أن السرد في الديوان سبق الشعر لكن الشاعر ارتأى أن يبدأ بالمسبوق دون السابق ليعطي أهمية الشعر في مسرحه الكبير لهذا لم يكن هناك إسلوب أفضل مما خرج به الديوان بقصائده وحكاياته.

Share: