كوميديا سوداء عراقية
للفقراء حق في مال الأغنياء، هل ننسى ذلك؟ هذا ما تعلمناه من ديننا السمح وهذا ما توارثناه عن أهلنا الطيبين وهذا ما اعتدنا على العمل به الا من أبى واستكبر من البشر الذين لم يجدوا أنفسهم بعد في لجة التيه اليومي.. هذه مقدمة قصيرة لما نريد أن نكتب عنه، وربما مقدمة لا تكفي لتصوير مشاهد الحياة القاسية التي يعيشها بعض أبناء جلدتنا، مشاهد لا نرضاها لأنفسنا أو لأحبتنا لكننا نرضاها للغير واولئك الـ (غير) ما هم الا اخوان لنا في الإنسانية..
كثرما نصادف في حياتنا البؤس وهو يغلف اناسا لا يختلفون عنا بالشكل او بالأحاسيس، وكثرما التقينا بأناس عصفت بهم رياح القدر وألقت بهم في يم لا خروج منه أولئك الذين كتب عليهم الشقاء بعد ان كانوا قوماً اعزة.. منهم من كان عزيز قومه فجالت به الأيام وامتصته حتى غدا بائساً فقيراً.. ومنهم من كان حظه عاثراً فلم يؤد الأولاد ما عليهم فألقوه في غياهب الحياة.. كل أولئك الناس هم أناسنا وهم اهلنا فلا يمكن ان نتخلى عنهم بسهولة.. زرنا الشارع المؤدي الى دائرة الرعاية الاجتماعية في البصرة التقينا بالناس الذين من المفترض ان يشملوا بقانون الرعاية لكنهم ما زالوا ينتظرون الفرج ولسان حالهم يقول: (ايها العراق الجديد الا يكفي ما تجرعنا من آلام ومآسي بفعل سنوات الضيم التي ولت.. الم يحن الوقت بعد لكي نعيش اعزة في بلدنا؟
• ام صابر (60 سنة) جاءت من قضاء المدينة تجر ذيول عباءتها التي تغيّر لونها بفعل السنوات المرة.. لم تستطع أن تمسك عبرتها فبكت متسولة بنا أن نكون لها واسطة لإنجاز معاملتها ولكن من اين تأتي الواسطة ونحن فقراء حالنا حالها!!
قلنا لها : نحن اعلام
قالت : شنو اعلام..؟
قلنا: يعني صحفيون..
قالت: يمه ما تكتبون عن الضيم اللي نعيشه..
حاولت اقناعها أن الضيم شملنا نحن ايضاً حين لم تفتح ابواب اية دائرة لنا بحجة أننا ننشر غسيل الدوائر.. هذا هو حالنا في زمن الديمقراطية العظيم!
• حسن عبد (طالب جامعي) اصطحب جاره الضرير الذي ما زال يراجع (الرعاية) منذ أكثر من ثلاث سنوات والآن طلبوا منه ان يأتي بصحة اصدار..
– وما هذا .؟
قال الطالب الجامعي:
– كتاب يؤيد أن المعاملة صحيحة وليست مزورة..
قلت له:
– الا يكفي انه لا يرى ليؤكد استحقاقه لراتب الرعاية..
قال الطالب الجامعي:
– لا يكفي ذلك..
قلت له:
– اذن، ما العمل..
قال الرجل الضرير:
– صبرنا لثلاث سنوات فلنصبر ثلاث اخرى!!
سكت ولم انبس ببنت شفة خشية أن يتهمونني بالإرهاب.
• غازي، قالها وهو يترحم على (غازي)..
-من غازي..؟
قال:
– الملك غازي ألف رحمة على روحة الطيبة.. اسماني والدي على اسمه وأنا اترحم عليه يومياً..
– لماذا؟
– لأنه كان حقاً ابو للفقرة.. هذا ما كان يخبرني به والدي..
– ماذا عندك..؟
– معاملة صار لها أكثر من سنتين..
– ماذا تريد فيها؟
– أريد معاش مثل باقي الناس..
– لماذا لا يعطونك المعاش؟
قال مستغرباً:
– يقولون ان معاملتك مزورة!
– كيف؟
ضحك هازئاً ثم قال:
– لا أدري، لكنها حقاً مزورة !
قلت مستغرباً:
– كيف؟
قال ضاحكاً:
– لأني أخذتها معي للزيارة لهذا فهي مزورة!!
(ضحكت معه ولسان حالي يقول: الله يساعدك)
مجموعة من النسوة جلسن على دكة لم تنشف بعد من بلل المطر الذي غسل المدينة قبل ايام.. قالت احداهن:
-والله لو عدهم أهل ما يعاملونه هيج.. يصير يسدون الباب بوجهنه.. ليش أحنه مو عراقيين.. احنه ما انطينه اولادنه للحرب.. ليهسه ما نشف دمهم واحنه انجوع.. منو يقبل ابهذا، يصير ناس شبعتنه وناس جوعانه.. والله لو ما العازة ما اوكف ابباب هذي الدائرة ولا اشوف خلقت ذاك الموظف!!)
كانت تتحدث بحرقة احسستها من انفعالاتها.. بينما جلست امرأة أخرى قريباً منها وبيدها ولدها المعاق.. قالت: (لعد أنه شكول.. شوفي هذا الولد، صار عمره اربعطعش سنه واهو على هذا الحال ومحد سأل عنا.. ليش مو يكولون راح ننطي الفقرة اشو لا اجونه ولا دكوا علينه باب.. أيه بس العنده عرف والماعنده ياكل حو!!)
أحاديث كثيرة، وقفشات مضحكة قد تصل الى حد البكاء، خاصة للرجل الذي قال لي أنه وصل الأمر الى سرقة تقرير اللجنة الطبية لأبنته.
قلت له: أيعقل ان يحصل ذلك؟
قال بألم: ألم تصدقني يا ولدي؟
قلت: اصدقك، ولكن كيف..؟
قال: أسألهم كيف حصل ذلك..
واحدة من الصور التي لم يصدقها عقل، لكنني صدقتها لما أعرفه عن أهلنا العراقيين من صدق في القول ذلك لأن الحياة والظروف الصعبة علمتهم أن يقولوا كل شيء بصدق وبلا رتوش وبالضبط مثل تحقيقنا هذا الذي سوف لا يرضي بعضهم.. تلك الصور والمشاهدات لا يراها المسؤول، نعم لا يراها لأننا اذا جلسنا على كرسي المنصب ننسى اهلنا والأقربين ولا نفكر الا بـ…..!
قالت لي امرأة تجاوزت عقدها الخامس:
-الله يساعدك يمه!
-هلا حجيه..
-يمه ما تحجون ويه الجماعة أشو صار النه سنتين وأحنه نراجع هذي الدائرة..
– سنتين يا خالة؟
– أي والله سنتين، هذي اجتافاتي للعباس ما أجذب عليك.. والله تعبت لو الله ياخذ أمانته وارتاح جان زين بس شكول وبركبتي وحدة عميه..
-الله كريم حجيه، ان شاء الله تحصلين على الراتب..
قالت متوسلة: يمه أنته تعرف واحد يسهّل أمري..
قلت: لا ..
قالت: زين وصّل صوتنه للمسؤولين تره هم خوش زلم وأجاويد بس محد يوصل الهم همنه..
قلت: صار حجية.. واكيد المسؤول راح يقرى كلامك..
قالت بعد ان رفعت ذراعيها المتيبسين: الله يخلّي اعيالك.. ويكثّر من امثالك..
قلت في سري: الم يروا العراقيين كم هم طيبون؟
يستمر شريط الحياة العراقية اليومي، وتستمر معها معاناة كثير من العوائل المتضررة في العهدين (ما قبل الديمقراطية وما بعدها).. وتستمر معها التصريحات الرنانة لمسؤولين لا هم لهم الا التصريح (والحمد لله اذ ازداد عدد الصحف والفضائيات لكي تستوعب تصريحات المسؤولين خاصة وهم يبدأونها بالحقيقة والواقع.. وسوف..وسوف.. وسوف.. وقام مجاهدو شركة فلان الفلاني احد تشكيلات وزارة (كذا)..) في وقت ما زال العراقيون يشدون الأحزمة على البطون ليصدوا جوعهم بأمانٍ رطبة!
*ضاعت فلوسك يا صابر..
أتذكر فيلماً للمرحوم فريد شوقي على ما اظن، كان يردد تلك الجملة (ضاعت فلوسك يا صابر) وصابر العراقي ما زال يبحث عن فلوسه لكنه لا يعلم الى أي مكان ذهبت.. بعد طول مراجعات، وغياب يومي عن الدار بسبب المراجعات الأزلية التي صارت بحكم الأستمرارية عادة.. صار صاحبنا صابر الذي تجاوز عمره الخمسين عاماً لا يثق حتى بصاحب سيارة الإجرة اذا ما اوصله الى الدائرة يقول له: عمي انته متأكد هذي دائرة الـ…
يجيبه السائق: أي نعم عمي هذي الدائرة اللي تريدها..
-بس هذي بابها مفتوح..
– طبعاً مفتوح.. قابل تريده مسدود..
– مو أنا الدائرة اللي اراجعها بابها دائماً مسدود..
– عمي انته تدري اليوم عطلة..
-عطلة ليش؟
-لأن اليوم جمعة..!
– غريب، لعد ليش الباب مفتوح..
– إجوز الحارس راح يجيب له ريوك..
– هم معقولة.. وليدي رجعني للحيانية الشارع السيد!
هذا ليس مسمعاً إذاعياً، او مشهداً تلفزيونياً.. انما قصة حقيقية سمعتها من رجل أقسم باغلظ الأيمان أنه لم يضف عليها شيئاً.. صدقته كعادتي ورويتها لكم وما عليكم الا أن تصدقونها أو لا.. لكنكم اذا ما نقلتموها الى آخرين الرجاء عدم اضافة (بهارات) للقصة!
*النهاية:
قبل ان انهي تحقيقي، تساءلت مع نفسي، هل حقاً اديت واجبي الصحفي كما يجب، وكما رأيت، وكما طلب مني أولئك الناس (الفقرة)، وهل سيقرأ هذا التحقيق مسؤول ذو ضمير صاحٍ ويرد حق الناس المساكين ويساعدهم ويرفع الظلم الذي وقع عليهم.. المظلوميات كثيرة، والأخوة المسؤولون الطيبون الشرفاء كثر ايضاً في بلدنا وهم بالتأكيد ينتظرون من يقدم لهم مظلومية العراقيين بصدق لينالوا شرف مساعدتهم وهو كل ما نأمله من هذا التحقيق والله من وراء القصد.
الحوار المتمدن-العدد: 1442 – 2006 / 1 / 26
اترك تعليقا