زيارة لمنزل الأقنان

(خرائب فانزع الأبواب عنها تغد أطلالا،
خوال قد تصك الريح نافذة فتشرعها إلى الصّبح
تطل عليك منها عين يوم دائب النوح.
وسلّمها المحطّم، مثل برج داثر، مالا
يئن إذا أتته الريح تصعده إلى السطح،
سفين تعرك الأمواج ألواحه) (1)
رددتها في سري قبل ليلة من زيارتي لقرية جيكور بعد ان أعدت قراءة كل قصائد الشاعر الكبير بدر شاكر السياب، كنت حينها أتوقف عند شواهد طفولة هذا الشاعر حيث بساتين النخل، نواح الفواخت، والمطر الذي لا يشبهه إلا دموع السياب وهي ترسم على وسادة مرضه آخر النبضات.
(كسيح أنا اليوم كالميتين
أنادي فتعوي ذئاب الصدى في القفار،
كسيح
كسيح وما من مسيح) (2)
كان عالم السياب عالما موغلا بالوجع والاسطورة، لم ينته الواقع أن يعيش حلمه، وسطور قصائده تفوح أحلاما مشبعة بالعافية. لم يكن المطر الذي رسمه على أوراقه البيض مطرا من ماء، كان مطرا من أحلام شاركته وفيقة الاغتسال به حد التطهر، وكانت ليالي جيكور الدافئة تعيده الى حضن لم يحظ باغفاءة فيه. كان الخجل البصري يرسم قدر الطفل الذي فجّر ثورة الشعر الحديث، وحين وطأت قدماي أرض جيكور بعد رحلة عبر شارع ملتو تحفّه البساتين من جانبيه أحسست برعشة تعيدني لزمن كانت فيه الجنيّات يتلبسن جذوع النخل، أشار لي مرافقي الى جهة النهر، نهر بويب، وقال، على تلك الضفة كان (بدر) يجلس ليكتب أحلامه بينما كان الصغار يلعبون بعيدا. لم يكن حلما ذاك الذي رأيته، طفل بدشداشته التي نفختها الريح يحلّق فوق بويب. يداه باردتان كالثلج، ترتوي الحقول من عرق أصابعه، وجهه الشاحب ذو الاذنان يشرق كالبدر في سماء جيكور، حينها بدأ النهر يردد انشودة المطر:
( أكاد أسمع النخيل يشرب المطر
وأسمع القرى تئن، والمهاجرين
يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع
عواصف الخليج والرعود منشدين،
مطر
مطر
مطر) (3)
وحينما قادتني خطواتي الى دار عائلة السياب التي طالما ذكرها الشاعر في قصائده (دار جدي) كان الصمت يلازمني خشية أن أوقظ وفيقة النائمة خلف شباكها من اغفاءتها الأبدية.
(شباك وفيقة في القرية
نشوان يطل على الساحة
كجليل تنتظر المشية
ويسوع وينشر ألواحه) (4)
لم ألتفت الى الوراء لأمنح نفسي (أنا الآخر) فرصة اكتشاف المكان، كل ما حولي كان اخضرا، حتى اني توهمت بأن وجهي سيغدو أخضرا، انها هيمنة المكان على الإحساس تتنامى كلما كان للمكان وجودا مميزا في الذاكرة. لم يمض وقت طويل حتى بدأت الفواخت تحلق فوق اطلال لمبنى تشعرك جدرانه الطينية أنك أمام حياة طواها الزمن وأبقتها الذاكرة مترعا للحكايا والأساطير. جدار سميك رسم الدهر عليه أخاديده وأودعت العقارب صغارها في جحوره، في كل لبنة منه تاريخ مكتوب بالعرق، بناه الأولون من العائلة كأنه الحصن المنيع. يغفو تحت أفياء بساتين مترامية الأطراف. لم يكن طللاً عادياً، بل هو شاهد لحياة خاطت تأريخها بمهارة. أمام بوابته المقوسة يحيلك المكان الى قصور قرطبة وخانات بغداد الرشيد وحارات القاهرة. هو امتداد لأمة نزفت دما وشعرا. عجن ترابه بقطرة ماء جاءت بها أمواج الخليج لتستقر في بويب أو قطرة مطر حملتها سحابة من ماء النيل ودجلة والفرات أمام الطلل الشاخص وفي باحة داره تكاد تسمع همسات النسوة وقهقهات الصبية وخربشات الطفل (بدر) وهو يرسمها على وجه الوحل حروفا لا انتهاء لها..
(وحين تقفر البيوت من بناتها
وساكنيها، ومن أغانيها ومن شكاتها
نحس كيف يسحق الزمان اذ يدور) (5)
قادتني قدماي لحجرة بدر بعد ان اجتزت بابها المقوّس. في الركن الذي كان فيه المهد الصغير بتأرجح نبتت شجيرة امتدت أفرعها الى اعلى لتصل قامتي كانت العناكب قد عبثت بأغصانها وشدتها بخيوط واهنة لتكوّن منها مصائد شائكة. هنا سمعت أغاني الأم التي لم يرها الوليد وهي تردد: (دللول يالولد يا باني) (6) لتستجيب الأحلام لتنهداتها وتحلّق به في فضاءات بعيدة. في هذا المكان جلس بدر يكتب قصيدته الأولى، ومنه بدات أولى المعاناة. بين شجيرات العاقول اجتزت المكان ورحت أنظر الى بعيد حيث منزل الأقنان. لم يبق منه شيئ فقد هدمته السنون وشخص في مكانه بناء من الآجر:
(ألا يا منزل الأقنان، سقتك الحيا سحب
تروي قبري الظمآن،
تلثمه وتنتحب!) (7)
ولأن المكان يعجّ بالحكايات فقد انشددت لها. أحسسن ان كل قطعة حجر لها حكاية وتاريخ، وكل سعفة كتبت عليها قصيدة. لم ار من الأقنان أحدا غلا انني سمعتهم يتهامسون، وشممت رائحة الطعام يحملها الدخان من الواقد، رائحة فيها من عبق التاريخ ما يكفي لسد شهية الحاضر. بين منزل الأقنان ودار جدي مسافات من البوح والتأمّل. قلت لنتهز الفرصة وارفع الحجب علني أحظى برؤية الشاعر وهو يقتنص لحظة الشعر المتوهجة فتردد الى سمعي صوته الخافت، ورددت جيكور تلك المفردات بصوت لفّعه الحزن يشاركها حزن بويب الذي شاخ وحاصرته الشواك من كل اتجاه.
(مطفأة هي النوافذ الكثار
وباب جدي موصد وبيته انتظار
وأطرق الباب، فمن يجيب من يفتح
تجيبني الجرار جفّ ماؤها، فليس تنضح،
بويب، غير انها تذرذر الغبار
مطفأة هي الشموس فيه والنجوم) (8)
تساءلت مع نفسي، ماذا لو نطق النخل، وسرد الحكايات، ترى من أين ابدأ..وماذا يقول؟ وهو نفس النخل الذي كان بدر يعلق على جذوعه معلقاته التي بللها المطر. مجرد فكرة خطرت في بالي. ربما كان من الصعب تحقيقها. كان النخل يحدّق بي حتى ظننت أنه سيقيدني بسعفاته:
(هي وجه امي في الظلام
وصوتها ينزلقان.. مع الرؤى حتى انام،
وهي النخيل أخاف منه اذا ادلهم مع الغروب
فاكتظ بالشباح تخطف كل طفل لا يؤوب
من الدروب) (9)
غمرني إحساس بالغربة وانا اطوف تلك البساتين الخضراء، ربما كان الموت يحلّق هو الآخر فوق رؤوس النخل ليترك مسحته الرمادية على الوجوه الذاهلة. عندها لملمت اوراقي وعدت مودعا دار الجد ومنزل الأقنان وبويب. كانت الشمس وقتها تختبئ خلف غابة النخل، وكان صوت السياب يردد:
(جيكور في عينيك انوار
خافتة تهمس،
“مات الصبي”!
لم تبق ىثار
من فجره، وانفرط المجلس،
فالتل لا ساق ولا سامر باق وسمار،
واراهم في سفحه الموحش المهجور حفّار!) (10)

هوامش
1- منزل الأقنان- في جيكور
2- شناشيل ابنة الجلبي- لوي مكنس
3- انشودة المطر
4- المعبد الغريق- شباك وفيقة
5- المعبد الغريق- دار جدي
6- من الغاني الشعبية التي ترددها الأمهات في العراق
7- منزل الأقنان
8- المعبد الغريق- دار جدي
9- انشودة المطر- غريب على الخليج
10- شناشيل ابنة الجلبي- اسير القراصنة

Share: