الدار قبل الجار.. بركات عصر الديمقراطية في العراق

اتذكر ان عائلتي الصغيرة حين أرادت ان تنتقل من محلتنا الى محلة اخرى، كان والدي يدور حول المختار الفلاني، والمختار الفلاني، يسأل هذا، ويسأل ذاك، عن كل ما موجود في المنطقة، الناس، المدارس، الدكاكينن الشوارع..وكان اهل المحلة التي كنا ننوي السكن فيها يسألون هم عنا حتى اذا اتفق الجميع وزكوا العائلة والمنطقة نزلنا فيها آمنين.. تلك كانت حياتنا قبل ان تدق نواقيس ديمقراطيتنا الجديدة.
* سيناريو استهلالي :
المكان: محلة الجبيلة في قلب مدينة الفاو-أقصى جنوب العراق
الزمان: صيف 1962
الحاج ناصر بعد ان يكتب وصيته قبل ان يحج الى بيت الله الحرام ليودعها لدىجاره
لقطة قريبة يد الحاج ناصر وهو يسلم الوصية
لقطة كلوز لوجه الجار وهو يتأمل الورقة التي اودعها له الحاج ناصر
لقطة متوسطة تجمع الأثنين
الحاج ناصر: ما اوصيك اخوي جاسم على العائلة..
الجار: عائلتك عائلتي لا تفكر بهذا يا اخوي تروح وترجع بالسلامة
قطع- 
بعد يومين:
الجار يجلس مع زوجته في حوش الدار:
لقطة عامة للبيت البسيط
لقطة كلوز الى وجه الجار وهو يحدث زوجته:
الجار: اريدك اتودين هذا المسواك العائلة حجي ناصر وتشوفيهم شيردون بعد..
الزوجة: وانا ما ناسيتهم، كل يوم امر عليهم
الجار: بارك الله فيك
قطع-
بعد شهر:
الحاج ناصر يجلس مع جاره، لقطة تجمع الأثنين:
الحاج ناصر: رحم الله والديك كنت جار ونعم الجار..
الجار: هذي تقاليد اهلنا واحنا اخوة وعرضنه واحد الا ما حرم الله..
الحاج ناصر وجاره يحتسيان الشاي..
(النهاية)
* سيناريو متأخر:
المكان: محلة ما في مكان ما من العراق
الزمان: ديمقراطية 2005
(ابو كفخة) فوق السطح ممسكاً ببندقيته 
لقطة من اسفل: (ابو كفخة) يملأ شاجور البندقية ويبدأ اطلاق النار
كلوز لأغلفة الرصاص وهي تتساقط على الأرض
كلوز وجه (ابو كفخة) وهو يغمض عينيه ضاحكاً
لقطة من اعلى: الجار يفتح بابه
الجار منادياً: اخويه ابو كفخة رحمة الوالديك عدنه مريض
ابو كفخة: ضاحكاً مريض؟ شنو مريض؟ قابل انا طبيب..
الجار: عمي راعوا حرمة الجار..
ابو كفخة: وش شفتنه قابل ما عدنه اخلاق
لقطة قريبة للجار:
الجار: لا منو قال ما عدكم اخلاق.. عمي احنا الماعدنه اخلاق لأن جايبين مريضنه يمكم..
كلوز لوجه (ابو كفخة) بعد ان يتوقف عن اطلاق النار:
ابو كفخة: شنو حضرتك تستهزأ؟
الجار وهو يهم بغلق الباب:
الجار: لا عمي ليش استهزأ.. هذا الحجي الصدك.. اخذت راحتك!
يغلق الباب بينما ابو كفخة يبدا باطلاق النار ضاحكاً..
• وصايا من زمن الخير:
لا ادري كيف جمعت تلك الوصايا في رأسي الصغير حين كنت طفلاً استمع لوالدي أو لأمي وأعمل بها واطبقها (حرفياً)، وصايا تتعلق بحب الجار واحترامه وحمايته والسهر على راحته.. وصايا تشعرك بأنك انسان تحمل صفاتك الانسانية في أقوالك وتصرفاتك.. لا أذكر كم مرة جمعنا جدي (العامل في الحفارة بغداد التابعة لمصلحة الموانئ العراقية آنذاك) وهو يلقننا حب الجار ويقرأ لنا ما تيسر له من أحاديث للرسول الكريم (ص) وآي من القرآن الكريم والتي توصي بالجار والجيرة وتجعل تلك الرابطة فيها من القدسية ما للإنسان ومن تلك الوصايا نذكر:
– جارك ثم جارك ثم أخاك
– اسأل عن الجار قبل الدار
– الجار أخو
– لو ما الجار ما عمر الدار
– الكلام الطيب يحفظ المودة بين أفراد المجتمع
– من قل حياؤه قل ورعه
– البيت الذي لا يفتح للفقير.. يفتح للطبيب
– الناس لا يعيشون إلا بالناس
– الأخلاق فضيلة دائمة
– لا يكفي أن تولد في مكان لتكون مواطناً له.. بل يجب أن تجب نفسك فيه أينما كنت
– من نظر في عيوب الناس فأنكرها ثم رضيها لنفسه فذلك هو الأحمق
– عامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به
– حُسن الخلق . . بسط الوجه، طيب الكلام، قلة الغضب واحتمال الأذى
– فخر المرء بعمله وأدبه، وليس بأصله ونسبه
– الإعتراف بالخطأ فضيلة
– إزرع الصدق والرصـانة تحصد الثقة والأمانة
– عاتب أخاك بالإحسان إليه ، واردد شره بالإنعام عليه
– خير البر عاجله 
– من لم يحسن الى نفسه لم يحسن الى غيره
– من تدخل فيما لا يعنيه وجد مالا يرضيه
– من حفر حفرة لأخيه وقع فيها
– لا إيمان لمن لا أمانة له
– من قل حيائه قل ورعه
– إذا أبغضك إنسان فأدع له بطول العمر
– يد الله مع الجماعة
– الجار ولو جار
– الحسد اعتراف من الحاسد بدونيته
– قيمة المـرء بما يحــسنه
– رب أخ لك لم تلده أمك
– لا تبصق في البئر فقد تشرب منه يوما
– اذا كان بيتك من زجاج .. فلا ترشق الناس بالحجارة
– كل شئ إذا كثر رخص إلا الأدب فإنه إذا كثر غلا
– المرء بعمله وليس بعمره
لم أعِ أن ما سمعته من جدي لم يكن سوى أمثال وحكم توارثها أهلنا منذ عهود قديمة وصارت سلوكاً لهم في تعاملهم اليومي مع جيرانهم وأهل منطقتهم حيث أضحت تلك الكلمات التي كانوا يحفظونها عن ظهر قلب على ألسنتهم يذكرونها في كل حديث ويذكّرون بها لهذا أصبحت حياتهم فاضلة ومجتمعهم نظيفاً والعلاقة التي تجمعهم لا يؤثر بها مال أو جاه.. وصار الإنسان يأمن لجاره ويؤتمنه على ماله وعرضه ولم يدخل قلبه شك في ان جاره سوف يخونه او يعتدي عليه حتى وصل الأمر أن مراكز الشرطة او ما كان يسمى (المعاونيات) لم يأتها احد شاكياً فكل شكوى يمكن ان يحلها مختار الطرف او المحلة (ليس مختار التقارير الحزبية وكسران الرقبة!) فأين منا كل ذلك اليوم ونحن نخوض في ديمقراطية لا رأس فيها ولا لون؟
*كومة حجار ولا هالجار:
هذا مثل من أمثال أهلنا حين لا يروق لهم الجار بسبب أو بآخر ونادراً ما يحصل ذلك آنذاك.. لكن المثل سرى في أحاديثهم ليذكرهم بخطر التصرف الخاطئ.. لكن الجار بقي في نفوسهم يشكل اكثر من جار فهو أخ حميم يقف معك في السراء والضراء.. وأتذكر أيضاً انه إذا ما أصاب احدهم نائبة أو أقام حفل زفاف لأحد أولاده فأن أهل الزقاق أو الأزقة القريبة يشاركونه الحزن والفرح حتى أن البيوت كانت تفتح لاستقبال الضيوف القادمين من مناطق بعيدة.. تلك كانت حياة لمجتمع لا أعتقد ان الأجيال الجديدة والقادمة ستستوعبها وربما تضعها ضمن خانة قصص الخيال!
• وصايا الآخرين:
لا نريد ان نوصي او ان نضع وصايانا أمام القارئ الكريم لئلا يتهمنا بعضهم بأننا غدونا مصلحين ومبشرين بمجتمع فاضل، نحن لا نريد لأنفسنا موضعاً كهذا لكننا نريد في الوقت ذاته ان نذكر من بقي في صدره حب للناس ومن الذي ما زال يحمل ضميراً صاحياً ان ما يحدث في مدننا غريباً على مجتمعنا الذي وصل في يوم ما الى حافة الفضيلة، نريد ان نشير الى ان الخطأ يمكن تجنبه ويمكننا ان نكون متحابين فيما بيننا، راضين بمن حولنا، عافين عن الناس، نكظم غيضنا ونسلم امرنا لله وللعقلاء من أهلنا ليحكموا بيننا خاصة وأن تقاليد جديدة أخترعها لنا عصر الديمقراطية الجديدة وعزز منها بحيث ستصبح في يوم ما اذا لم تعالج إرثاً لأجيال جديدة.. 
الجار هو نحن، اذا اخطأ أرشدناه ونهيناه واذا لم ينته وجب على الناس وقف التعامل معه ومحاصرته كما كان يحدث في الأمس حين كان أهل المحلة ينبذون المخطأ ويوبخونه او يجعلونه يشعر بخطأه هكذا نستطيع ان نتلافى الخطأ وأن لا نعالجه بالخطأ فكثير من الناس راحوا ضحية العلاقات الجديدة الخاطئة، العلاقات المبنية على المصالح الشخصية الضيقة والتي لا تتعدى اللهاث خلف المادة والركض من اجل جمع المزيد من الدولارات والدنانير المبتلة بالحرام (أعاذكم الله).. علينا أن نعيد تلك السنوات الى سنواتنا، وان نستذكر اجدادنا وآباءنا وهم يخرجون للعمل أخوة فحُسن الخلق بسط الوجه وطيب الكلام وقلة الغضب واحتمال الأذى وليكن في علمنا ان فخر المرء بعمله وأدبه، وليس بأصله ونسبه وعشيرته. 

الحوار المتمدن-العدد: 1539 – 2006 / 5 / 3

Share: