لعبة شهرزاد ليلة من الف ليلة وليلة (مونودراما)
(تدخل شهرزاد بجمالها وفتنتها، ثوبها الفضفاض، مخملها الوردي،شعرها الطویل المرسل يرصعه طوق من الذهب.. تقف أمام اربعة رؤوس لنساء القصر، قطعت وعلقت في المكان الذي تجثم عليه عتمة يتخللها بعض الضوء.. تتوقف لتؤشر حیث الرؤوس المتدلیة)
شهرزاد: شواهد النصر على الضعف، تتدلى حول مخدعك الاثیر،لتزداد ارقا وفتنة..ما كان یستجیب للهوك ، الجلاد، لولا نزاهتك بالقتل..فتوحاتك الغالیة هذه ترصع مخدعك المكتئب..دماؤها یملأ قهقهاتك الضجرة، صراخها یمتد عبر مجرات خوفك، لا احد یمنعك عن فتوحاتك تلك ما دمت مولعا بالضجیج.. كم لیلة علبت فيها نزواتك وتركتها تطفو في مياهك القاحلة، ايها المتمرس بایذاء الجمال أما انتهيت من استكشافاتك المجدبة لأجساد خانعة..؟ لن تخلد للراحة ما دمت شرها للأنین، ايها الراعي الذي یتلذذ بتأوهات الرعیة، قطرة من الدم لا تكفي لإيقاف نزیف أرقك المحموم، لم تأسف لخطیئة، ولن تفعل! (تتحرك قلیلا، تنظر في أرجاء المكان وكأنها محاولة لاستكشاف ما خفي من أسرار.. تقف عند الرأس المتدلي الاول)
بصمتك الأولى، شهريار، ملامحك ما زالت ملتصقة في حدقتي هذا الرأس، ها أنت ذا تأمر جلادك الأسود لیقطف ثمرة یأسك، رأس صغیر بوجنتین تتدفقان شبابا وشفتین لم يمسسهما الإثم..وعینین تبعثان البراءة وتنشدان الأمان..(تضحك) أمانك یا شهريار!!(تهمس مبتعدة عن الرأس الأول المتدلي) ايها المسكین .. لم تفد توسلاتك بجلاده الآثم وها أنت ذا تتدلى في هذا المكان المقرف لتنعم براحتك الأبدية. (تصطدم بالرأس الثاني المتدلي، تحدق فيه تؤشر نحوه) وهذا أیضا، أية أحلام تطایرت كالشرر منه.. بصمتك الثانیة، شهريار، بل ذنبك الذي لن یجف… انظر، الابتسامة على وشك ان تنبثق لكن رحمة جلادك أوقفت انبثاقها..أنت ترحم ایضا، وكل الرؤوس المعلقة تلك دلیل رحمتك! (تلتفت حیث الرأس الثالث المعلق، تتأمله،تحاول ان تتحسسه بأناملها) صدیقتي، هل حققت حلمك في التربع على عرش قلب أمیر..؟ ها هو ذا أمیرك اصطادك قبل الأوان، لكنه لم یفعل كما حلمت، لم یأخذك على صهوة فرسه العربي حیث المدن التي تمتلأ احلاما..ها هو ذا یمنح رأسك شرف التدلي في مخدعه (تبتسم بألم) لیت الأماني تتحقق كما نشاء، لا كما تشاء! كم من الأحلام المؤجلة بحاجة الى اعادة نظر..؟ فیما مضى كانت جدتي تقول لي: یا شهرزاد، ان الأحلام مجسات شؤم للصغیرات..ان تحلمي بفارس فمعناه ان قدرا یتبعك.. او تحلمي بسیف فأنت ضائعة، والقلادة مصیر والثوب كفن، والكفن عمر جدید… قالت جدتي: الأحلام یا شهرزاد لا تلیق بالصغیرات، لهذا كنت في كل لیلة اقتل حلما وادفنه في وسادتي.. حتى أضحت مقبرة لأحلامي المیتة..( تبتسم) قتلت من الأحلام ألفا..لم یتبق الا حلم واحد ادخرته للیلة زفافي..(تقهقه ، تنظر الى الرأس الرابع المعلق) وأنت یا صغیرتي، ألم تدخري حلما للیلة زفافك..؟ جدتي تقول: الرأس المقطوع ، في الحلم طبعا، حكمة…اما في الواقع فهو فزع ورهبة..أما رأسي ..(تتحسس راسها بيديها) لا … أنا… لا أريده ان یتدلى في مخدع الخلیفة هذا..لا..لا أريده هكذا، معلقا كتحفة أكلها الزمان.. (تفكر للحظة) كوخ حقیر أعظم من كل قصور الخلیفة شرط ان یكون رأسي في مكانه،جمیلا یتوج جسدي!(تجلس تراقب الرؤوس المتدلیة) حین طرق الحاجب بابي، كنت أعد مائدة لأبي…
(تنهض،تفتح الباب،تنظر بفزع) كأنه عزرائیل یقتحم خلوتي..خبأت جسدي خلف الباب وتحدثت الیه، عرفت حينها ان الخلیفة أرسل بطلبي..تصوروا، الخلیفة یرسل بطلبي..أیة مفاجأة هذه، ساعتها تذكرت كل الحكایات التي ترددها العامة كل یوم، عن زوجات الخلیفة اللاتي اصطبغن بدمائهن في لیلة الزفاف.. لم يمهلني الحاجب فرصة للتفكیر، او حتى لتغییر ملابسی او تودیع أشيائي، كان على عجل وإرباك، حتى ظننت ان الخلیفة یقبع تحت عمامته یترصدني.. اقتادني وسط ذهول الجیران كنت أرى بیتي یبتعد عني شیئا فشیئا..وأشيائي أبصرتها من خلال الجدران تلوح لي بأكف باردة.. لا ادري لم تذكرت تلك الشاة التي اقتادها أبي ذات یوم ليقدمها أضحية للعید.. عندها كان ینمو على جسدي صوف كثیف.. وتدلت أذناي واستطال انفي وجحظت عیناي ومشیت على أربع! لم احتفظ الا بصوتي وانا اتبع الجزار حیث یرید، كانت أضحية العید آخر من ودعني عند باب الخلیفة، وهناك، وجدت أبي، راكعا، متوسلا، بینما بدا الخلیفة مثل مارد اغتسل بخطایاه ودار الخلافة أشبه بزنزانة للقرود والكلاب والمشردین… رائحة الخطیئات تنبعث من زوایا المكان وبقایا أنين لرؤوس قطفت قبل أوانها.. بعیني ذئب كان الخلیفة ینظر الي مكشرا عن أسنان تساقط منها الكثیر، بعد ان سلمني الحاجب لیدیه،لم یعر أبي اهتماما بي، كأنه لم یعرفني، وربما تظاهر بذلك كي لا أكون بعد حین لحمة طریة تتوسط مائدة الخلیفة الشره.. كیس من الدنانیر الذهبية قذف به الخلیفة على الأرض وارتطم بقدمي أبي..هو كل ثمني،(تضحك) كیس یعادل شهرزاد..یعادلني، ایة حقارة أعظم من هذه..؟ ان یعادل الإنسان بكیس من قمامة الدنانیر..! لقد فعل ابي خیرا اذا لم یمسك الكیس بيديه انما راح یبعده بقدمه..اعترف انه لم یبعني للخلیفة بثمن بخس.. الا ان الخليفة،أصلحه الله،اصر على شرائی راسما في مخیلته خطوط اللعبة..(تجلس بهدوء) ها قد بدأت اللعبة، لعبة الشاة والذئب..(تمد يدها الى أمام وتومئ).. تعال أيها الذئب.. اخلع عنك عمامة الخلافة، لن تتعشى بي قبل ان أتذوق طعمك..(تنهض وبحركات راقصة) لا بد انك الان تفكر بان الشاة تنتظر مخالبك،وسكاكینك، تغمض عيني الواجفتین مستسلمة لهوسك، وجبروتك، راضیة بقدرها، أنت الآن بین حاشیتك الذین ما انفكوا یصفقون لرجولتك وبطشك ویھللون لرعونتك.. لكنهم اضمروا لك أقاويل لا يسعها لسان! لا بد ان جواریك عطرن جسدك المنتفخ بطرا بسموم انوثتهن الضائعة.. وغلمانك هيأوا جباههم لتلمیع خفیك..(تحرك أناملها ببطء) تعال یا ذئبي المتمرد.. مخدعك الأثير ینتظر، حیث الضحیة القادمة..لعبتك لم تبدأ بعد واظنها لن تبدأ ابدا..(تتوقف) أنا…(بتأكید) أنا التي سأبدأ اللعب.. انا التي سأقحمك في غیاھب اللعبة..(تقترب من الرؤوس المتدلیة تحرك واحدا لیصطدم بالآخر) لم یكن آدم سببا للمأساة، تذكر هذا (بهمس) التفاحة لم تبارح أصابع ید حواء.. تذكر ھذا جیدا..حواء ھي التي قطفت التفاحة اولا…یا… ذئبي المتمرد..(تضحك بجنون، تنظر الى الرؤوس المتدلیة) وأنت أيتها الرؤوس البریئة، اشهدوا معي المشهد الأخير للعبة القذرة.. كفتا میزان قدر لهما الا یتكافآن، قطبان متنافران، ثقلان باعد بينهما سدیم مظلم، ریشة وحجر،ضوء وعتمة، أيتها الشموس المنطفئة، اللیلة ینقلب السحر على الساحر، وتتمرد الارواح لتعلن بدایة السقوط لزوبعة الرؤوس المتدلیة… اللیلة (تقف منتصبة) سیبدأ تاریخكن المضمخ بالبراءة..اللیلة ستشمخ أحلامكن بلون الهزيع، اللیلة سیمتلئ المكان بزمانكن الذي قطع رأسه.. اللیلة ستقرع الطبول لزفاف سرمدي خضابه الثأر لكل الخطایا وتسدل الستار على أرق أزلي طالما راود الآدميون القابعون خلف عروش تنتظر الهلاك (تقترب من الرؤوس وتحرك واحدا فواحد) افتحن أعينكن أيتها المعلقات كالعصافیر المحنطة.. سیجثم آدم تحت قدمي حواء.. ذلیلا، صاغرا، متضرعا الرحمة التي لن يجدها… وسینكمش السیاف الأسود في قمقمه العفن، اللیلة یا حبیباتي ستولد شهرزاد من بین ثنایا الجنون، اللیلة ینتصر الجمال على القبح، وتنتصر الرقة على الجبروت..(تجمع الرؤوس وتعلق حول رقبتها كالعقد) كن معي، أيتها الخائبات لنحتفي باللعبة القادمة..
(تجمد، اظلام)
ستار
9/10/ البصرة 1996
اترك تعليقا