دعوة لحماية أطفال العراق:أطفالٌ في خطر
من أكياس النايلون الى الكبسلة!!
– من يحمي أطفال العراق؟
· في البدء:
الطفولة عالم شفاف، وهو عالم البراءة والصدق، عالم بلا عقد، هو يجبرنا أن نتحدث عنهُ بهدوءٍ ورويّةٍ،حتى أولئك الذين قَسَت قلوبهم حين يتحدثون عن الطفولة تتغيّر نبراتهم، ويجرّهم ذلك العالم الأثيري الى حيث الصفو والشفافية، هي بالتأكيد ليست شفافيتهم ولا هو صفوهم إنما صفو الطفولة ذاتها.
هذا العالم، هو عالمنا جميعاً، منه نفذنا حيث الحياة الواسعة، وبهِ ابتدأ أول تلامس لنا مع الأشياء والموجودات، وفيه أحسسنا بهذا العالم يوم كان العالم بحجم قلوبنا.
مَنْ منّا لا يتذكّر لحظات طفولته، ويستعيدها بعدما امتلأ الرأسُ شيباً؟.. مَنْ منّا لا يشعرُ بالحنينِ للماضي حين كانت الحياة عبارة عن زهرةٍ في حديقةِ الأهلِ؟.
فقراءٌ كُنّا، لكننا أغنياء بصدقنا، نعيشُ ليومنا ونتركُ الأقدارَ ترسمُ خطوطَ مستقبلنا، أحلامُنا صغيرةٌ وأمانينا.. ننتظرُ المساءات لنسعدَ بالإستماعِ لحكاياتِ أمّهاتنا وجدّاتنا وهن يسلمننا الى نومٍ هانئٍ.
لم تكنْ الحياة معقّدة كما هي الآن، أو كانت، لكننا لم نستشعر بها آنذاك، فقد كان الأهل يخفون عنّا كل ما يكدّر صفو طفولتنا.. لم يكن يشغلنا من الحياة الا اللعب واللهو قبل أن تجيء أيام الدراسة.. كنّا هكذا، ملائكة على الأرض، وأطفالٌ بالمعنى الذي لم تشوّهه الحياة!
· تجارةُ موت الأطفال:
تأكّد لنا، ان الحصار الذي حزّم العراق، لم يكن حصاراً خارجياً فرضتهُ القوى الكبرى جراء تخبّط سياسة النظام الذي ولّى الى غير رجعة فحسب، وأنما كان حصاراً داخلياً فرضهُ النظام على أبناء البلد.. وقد كان الأطفال من أكثر شرائح المجتمع تضرراً، وفي رسالة أرسلتها لي الصحفية الإيرلندية (فلستي آربثنوت) في عام 1999 وتضمنت موضوعاً كانت قد نشرتهُ في صحيفة بريطانية بعنوان (جاسم.. الشاعر الصغير) تحكي قصة طفل من أطفال البصرة أصيب باللوكيميا بسبب إشعاعات القصف ولم تستطع إيصال الدواء له في الوقت المناسب فقد قضى وهو يحلم أن يكون شاعراً في المستقبل، هذه الصحفية ذكرت في رسالتها أن مليون ونصف المليون من أطفال العراق يموتون في العام الواحد أمام أنظار المجتمع الدولي، وهذا ما يؤكد تلك السياسة الهوجاء الذين كان يتبعها النظام تجاه أبناء الشعب.
لقد استخدم النظام السابق مسألة موت الأطفال هذه كذريعة لرفع الحصار عنه لتنفيذ مخططاته ضد أبناء شعبنا، وذكر مصدر طبي أن النظام كان يحتفظ بجثث الأطفال ويجمعها من المستشفيات ليخرجها بعد ذلك في موكب جنائزي في شوارع بغداد أو المدن العراقية الأخرى لتحريك الرأي العام في بلدان العالم.. وهي لعبة لم تنطلِ على احد خاصة وأن النظام يمتلك من الدواء والمال ما ينقذ هؤلاء الأطفال، وذكرت بعض الصحف أن ما وجد في بيوت عدي من أموال تكفي شعب العراق وليس أطفاله فقط!
كلنا نتذكر المواكب الجنائزية تلك، وشاهدنا دموع الأمهات وهنّ يودّعنَ فلذات أكبادهنَّ، أو تلك اللاتي يتذكّرنَ مَنْ غابوا عنهنَّ من الأبناء أو الأزواج أو الأخوان أو الآباء في حروب صدام اللامنتهية، تلك الحروب التي حصدت الملايين على مدى ثلاثة عقود، كلنا نتذكّر تلك المشاهد التراجيدية، ونتألّم لها، لكنّ هناك من لم يعرف اللعبة، وربما تفاعل معها بعاطفة عراقية محضة، وهذا القليل القليل هم من العراقيين البسطاء.
لقد صارت المتاجرة بالموت واحدة من الطرق التي تفنن بها ساسة الأمس لا لشيء الا لإدامة حكمهم حتى وان كلّفهم ذلك شعب العراق بأكمله!!
أن قرابين الأطفال تلك كافية لأن تعيدنا الى صوابنا لنتحسس الجرح الغائر في جسدنا العراقي وننتخي لأنفسنا ونكون يداً واحدة من أجل مستقبل أبنائنا.
· أطفالٌ متسولون:
لا نأتي بجديد لو استعرضنا ذلك العدد من الأطفال المرابط في الساحات العامة والشوارع المكتظة بالناس وهم يمدّون أيديهم للعابرين مرددين مثل ببغاوات جملة مكررة، لكن الجديد في الأمر أن يُنَظَّمَ هؤلاء الأطفال في فرقٍ خاصة بالتسوّل.. أنا مثلكم كنت أظنُّ أن الحياة قد قذفت بهم الى الشوارع ليعينوا آباءً مقعدين أو أمهاتٍ لا حول لهن ولا قوة!، ولكن بعد جهدٍ وتقصّي أتضح أن هناكَ أصابع خفيّة تحركهم وتوزّعهم على المناطق المكتظّة وهنا اتذكّر خبراً صحفيّاً كانَ قد نشرهُ أحد الزملاء قبل سنوات في إحدى الصحف ذكر فيه أن أباً قد تسبب في عوق ابنهِ من أجل أن يجعلهُ وسيلةً للتسول والخبر يشير الى أن الأب قام بزرق ساعد ابنه الأيمن بمادة الكيروسين ليتسبب بعد حين ببترها.. هذا الطفل أشاهدهُ باستمرار، وقبل أيام حاولت أن أحدّثهُ لكنّه لم يعطني إجابة، هو موجودٌ في السوق، بجسده العاري، وذراعه المبتورة من أعلى الكتف، وهو واحدة من الصور الكارثية التي أصابت أطفال العراق.
كل شيء يجري في سرية تامة، وهكذا بالنسبة لباقي الفرق، والجماعات، أطفال من مختلف الأعمار، أولاد وبنات، تشاهدهم وكأنّكَ أمام فيلمٍ مصري من تلك الأفلام التي نشاهدها في تلفزيون الأمس.. وهنا لا بد الإشارة التي السؤال المُلح: متى تنتهي هذه الكارثة؟!
· لُعَبٌ وحروب:
قال لي صاحبي: أنّ أخاً له اتّخذ من إحدى بلدان الغرب منفى اختيارياً له، زارهُ مع طفله الذي لم يتجاوز الست سنوات، وأراد أن يعرفَ تأثير المجتمع على الطفل، ولأنه لديهِ طفل في نفس عمر طفل أخيه فقد قام باختبار بسيط حين اختار ورقتين وقلمين وطلب أن يرسم كل واحد منهما رسماً في الورقة البيضاء، وبعد فترة وجيزة (والقول لصاحبي) أنجز الطفلان رسمهما، فلم يُفاجَأ إذ رأى أنّ ابنه قد رسم دبابةً وجندياً وطائرة، بينما رسم ابن أخيه شجرة وعصافير ووردة!!
نحن في هذا لا نروّج لبضاعة الغرب، ولا ندعم اختياراتهم ونتجنّى على أنفسنا، لكن صورة الطفل هذه هي صورة أوليّة للذاكرة العراقية، فماذا تريد من طفلٍ هو نتاج حروب متكررة أن يرسم؟ طفلٌ لم يشاهد في التلفزيون الا آلة الدمار والقتل، ويسمع أصوات القذائف، ويرى الموت بعينه ثم حين يأتي عيد ميلاده فأنه يُهدى دبابة أو بندقية!
وإذا تجولنا في محلات بيع لُعَب الأطفال سنجد العجب العجاب، أسلحة من جميع الأنواع، صغيرها وكبيرها، معدات حربية مختلفة.. وهناك واحدة وقفت عندها طويلاً هي عبارة عن عدة حرب تتكون من حربة ورمانة يدويّة ومسدس وشريط اطلاقات.
هذه الألعاب تؤثر في البناء السيكولوجي للطفل، لأنهُ- أي الطفل- أكثر المخلوقات تأثّراً بالمحيط فكيف إذا كان هذا لصيقاً به؟
سألتُ بائعَ ألعاب عن اللعبة المحببة للطفل, وأية نوعية تباع أكثر فقال: بالنسبة للبنات فهنّ يفضّلنَ الدمى والعرائس، أما الأولاد فهم يفضّلون هذه (وأشار الى سلاح ناري!!) وأحياناً السيارات (مع ملاحظة أن السيارات هي من النوع العسكري أيضاً).
· عسكرة الطفولة:
أن توفير الفضاء المناسب للطفولة مع الأخذ بنظر الاعتبار إعداد جيل قادر على تحمّل المسؤولية ولا يحمل عقداً عدوانية أو ضغائن مزمنة هو من أولويات واجبات الدولة الجديدة.. واذا تصفّحنا تاريخ الأمس القريب، سنقف عند صور تشعرنا بالغثيان، حين كانت المعسكرات التي كانت تسمّى بمعسكرات الأشبال تعجُّ بطلاّب المدارس، بعد عام دراسي متعب، يُزَجُّ الطالب في معسكر يتلقى فيه تدريبات قاسية على القتل والأحقاد هذه المعسكرات خلقت جيلاًً مشبّعاً بآلة الدمار والقتل ووجهت الطفولة باتجاه منحرف لا لشيء الا لخدمة أغراض السياسة الرعناء وكان الإعلام في حينه ينقل صور أولئك الأطفال وهم يمزّقون أرنباً أو حمامة أمام كاميرات التلفزيون ويأكلونها نيّئة بدمها الذي اصطبغت بها وجوههم الغضّة.. فماذا بوسع المرء أن يقول إزاء مشهد الأيدي الصغيرة الملطخة بدم الضحيّة؟!
وفي الوقت الذي تخصص فيه كل قنوات العالم التلفزيونية فترة لبرامج الأطفال كان التلفزيون العراقي (تلفزيون الشباب) يعرض في بدء الفترة الخاصة بالأطفال صور من المعارك السابقة في برنامج اسماه (كي لا ننسى!!) وهي صور مختلفة للحرب العراقية الإيرانية والتي لم يكن أولئك الأطفال قد ولدوا حين اندلاعها، وهو بهذا يؤكد مسعاه الخبيث في تحطيم جذور الشخصية العراقية ليخلق منها حطباً لمعارك قادمة.
ومن غرائب أمور هذه المرحلة- مرحلة ما بعد سقوط صدام- كما حدّثني مفوض شرطة أن أكثر الشكاوى التي تسجّل لديهم هي بحق أولاد اعتدوا على آبائهم وأمهاتهم، وأخبرني أن أحد الأولاد في إحدى مناطق البصرة القديمة قد هدد بتفجير عائلته بواسطة رمانة يدويّة، وآخر اعتدى على أبيه بطعنه بسكين. هذه الأمور ما كانت لتكون لولا التربية الدموية التي شبّ عليها أولئك الأولاد، والآن، لو استطعت أن تفتّش طلاّب المدارس وهم في مدارسهم ستجد العجب العجاب ولا غرابة أن يهدد تلميذ مدرسهِ بشتى التهديدات ما دامت الحياة قد أضحت غابة!
· صور متفرقة:
لا نريد ان نتجّنى على أحد ، ولا حتى على الطفولة العراقية، لكنّها الحقيقة، وهي حقيقة مُرّة ومؤلمة، ونحن اذ ننقلها للقارئ نتمنى أن تأخذ العائلة دورها الجدّي كمربٍّ ومراقب، وأن لا نعوّل كثيراً على مؤسسات الدولة، خاصة وان دولتنا بحاجة الآن الى مربٍّ ومراقب!
تستطيع الآن أن تلتقط صوراً مختلفة لأطفالنا لتعرف حجم المأساة التي وصلنا اليها وخطورتها، فكثير من الأطفال قد زُجِّوا في أعمال شاقة، تضعهم على حافة الخطر، فمن أطفال المخابز والأفران الى أطفال السمكرة ومنهم الى أطفال التقاطعات وأطفال أكياس النايلون وأطفال التسوّل الى ما هو أخطر وأهم وأعني أطفال الحبوب والسيكوتين والكبسلة!!.. صور مخيفة تهدد بنية المجتمع العراقي نضعها أمام أنظار الوزارات الجديدة الثلاث:( وزارة شؤون المرأة ووزارة الشباب والرياضة ووزارة العمل والشؤون الإجتماعية) لما لها من صلة بموضوعنا ونحن نتساءل: في ظل افتتاح العديد من المكاتب الحزبية والجمعيات الإنسانيّة لماذا لم يفكر احدٌ بفتح جمعية لحماية أطفال العراق ورعايتهم؟
الحوار المتمدن-العدد: 1401 – 2005 / 12 / 16
اترك تعليقا