الباص الخشب : صورة الماضي في قناع الحاضر
– جولة ذهنية في عوالم الباص الخشب –
– أول المطاف :
قال الطفل الجالس بجانبي في السيارة لأمه :
– ماما ، أنظري ، كنتور بعجلات !!
ضحك كل من في السيارة وبقي الطفل يغطُّ في إستغرابه من كتلة الخشب الكبيرة تلك التي تسير بعجلات …
دهشة الطفل هذه تُعيدني إلى دهشتي وأنا أرى أول باص خشب في الطريق ، وربما هي دهشة آبائنا أو أجدادنا حينما رأوا في أواخر أربعينيات القرن الماضي هذه الكتلة الغريبة بعدما تعودوا على أن يقطعوا طريقهم في عربات الحمير أو مشياً على الأقدام .
المشهد الآن يتكرر ، بصورتين مختلفتين ، في الأولى أنه لم تكن هنالك سيارة تسير بمحرك مثل تلك أبداً حيث أن السيارة المعروفة آنذاك كانت فقط الفورت / ستروين أو التي يسمونها ( التنتا ) والتي دخلت المدينة في ثلاثينيات القرن الفائت وهي صغيرة الحجم . لهذا ، كان الباص الخشب آنذاك هو الأول من نوعه .
وفي الثانية ، هو التعوّد في رؤية السيارات الحديثة ولم يخطر في بال الصغار أن هنالك سيارة مثل هذه !
لهذا فأن الدهشة في الحالتين لها ما يبررها وهي سرعان ما تتحد والذاكرة لتشكّل وجوداً هو شيء من أشياءٍ عدة يرسم وجه الماضي .
– جولة في بَلَشْقَهْ :
أنتَ الآن ، تقف على ضفة نهر العشار ؛ ضفته الشمالية ، يوم كانَ النهرُ نهراً .. قبالتك مقام الأمير وعلى يمينك شط العرب الكبير .. وعلى يسارك مبنى المتصرفية والبنك العربي وساعة سورين تسمع بين حين وآخر حمحمة الخيول واصوات حوافرها وهي تضرب الأرض في رحلة شاقة من البصرة القديمة إلى حيث تقف الآن …
هذه الجولة لن تكلفك سوى عشرة فلوس أو اقل تضعها في جيب صاحب العربة ليستمتع برنينها ..
عربة اعدّت بانتظام ؛ بعجلتين كبيرتين اطّرتا بالخشب وغلّفتا بالربل ومن هذا جاء اسمها ( عربات الربل ) ويسمّونها أيضاً ( البَلَشْقَه ) ، واسطة النقل في المدينة .. لنقل الأشخاص ، أما عربات نقل الأمتعة والأشياء الثقيلة والكبيرة فهي ذات أربع عجلات وأكبر حجماً من تلك ، كانت تخترق الشارع جيئة وذهاباً بين صفين من أشجار الكالبتوس والصفصاف والسدر الممتدة على طول نهر العشار والشارع المحاذي له .
تستطيع الآن أن ترى عقارب ساعة سورين ؛ ( بك بن ) البصرة ، وهي تعلن انتصاف النهار ، وتوقف الحركة في صيف لا يرحم . عليك أن تجد مكاناً يحميك من لهيب شمس البصرة ، ولن تجد غير المقاهي والخانات التي فتحت أذرعها منذ الفجر لأستقبال زبائنها الدائميين والوافدين المستطرقين . في مقهى التجّار ستجد وجوهاً سمعت عن أصحابها الكثير ، أعيان وعامة .. قد تُطفئ ظمأ النهار في ( طاسةِ ) ماء يجلبها لك العامل الصغير ( عبود ) .. هنا تسمع ما لم تسمعه أذناك طيلة النهار القائظ .
تجارٌ تركوا أمداس حنطتهم وشعيرهم وتمرهم في جراديق الداكير ، وعمّال انسلّوا من مطحنة الوصي لينفضوا تعب اليوم مع ( ستكان ) الشاي .
هنا ، يخبرك احدهم أن ( حافظ القاضي ) استورد نوعية جديدة من سيارات الفورد وأيضاً الفكسول والدودج … وآخر يقسم باغلظ الأيمان أنه رأى بأم عينيه أنهم يصنعون ( بَدْيَاً ) للشوفرليت في منطقة حمدان مع ما يصنعونه من سفن صيد ( لنجات ) .. ولن تصدق هذا حتى تراها تسير ، تلك الباصات الخشب المتمايلة على الطريق المتعرجة المخترقة غابات نخيل أبي الخصيب .
* كنّو وباصهُ الخشب :
قال محدّثي : ثمة شخصية ظريفة ، معروفة في الفيصلية ، الجمهورية فيما بعد ، علاقتها والباص الخشب تواشجية ، لا تسمع عنه شيئاً دون أن يُذكر الباص معه ، اسمه كنّو ( بالكاف الأعجمية وتضعيف النون ) ، لا نعرف أهو اسم أم لقب أطلق عليه العامة . ( يرد هذا الاسم أيضاً في عدد من الحكايات الشعبية وفي مناطق متفرقة من العراق ) .. المهم ، لم يرَ أحدٌ ( كنّو ) هذا صاحياً طيلة حياته ، فقد افتتنته الخمرة ، مثلما أفتنه باصه الخشب !
كان يملك باصاً يعمل على خط ( جمهورية – بصرة ) مروراً بصبخة العرب والونبي والمستشفى العام .. ذات يوم من صيف حار لم يشأ ( كنّو ) هذا أن تكون نهاية خط الباص ( البصرة ) انما اختصاراً للوقت طلب من عامله ( السّكن ) أن ينادي : ( مستشفى … مستشفى ) إشارة إلى أن الباص يصل إلى حد منطقة المستشفى ، لم يصعد معه أحد حتى أنتصاف النهار ، وبعد إن يئس قرر أن يتخذ ( خط البصرة ) مساراً له .. وما هي إلا دقائق حتى امتلأ باص ( كنّو ) بالركاب ، وتحركت العجلات ودار في خلده أن يثأر للوقت الذي خسره فالتفت حيث يجلس الركاب وقال : ( لم ترغبوا في الذهاب إلى المستشفى بارادتكم ، وها آنذا أرسلكم إلى المستشفى جميعاً !! ) وأنحرف بالباص حيث النهر القريب وأنزله بركابه في الماء ! ..
– زنجيل الباص الخشب :
قبل تعبيد الطرق ، الخارجية منها على وجه الخصوص ، ابتكر سائقو الباصات الخشب طريقة تمنع سياراتهم من الغوص في الوحل والطين ، ذلك بان يربطوا العجلتين الخلفيتين بسلاسل قوية تزيد من قوة الأحتكاك بالأرض .. كانت إحدى شتاءات الستينيات زاخرة بالمطر يوم رغبنا في زيارة البصرة .. وما كان قطع مسافة المائة كيلومتر من الفاو إلى البصرة بالأمر الهيّن وفي مثل تلك الظروف المناخية القاهرة .. كان باص ( صمد لوفان ) الخشب هو الأسرع في كراج البلدية .. وهو الأكفأ عند الأهالي .. وقبل أن ينطلق الباص بنا تفقّدَ ( لوفان ) عدّة الطريق من مساحٍ ومجارف ومعاول وسلاسل ! .. وضعها جميعاً في السلّة العلويّة للباص وانطلق في طريق لا نعرف ماذا تخبّئ لنا الأقدار فيه .. أربع ساعات أو أكثر في متاهةِ طريقٍ وعرٍ موحلٍ .. كل لحظة يترجل عدد من الركّاب ، بعدما تغوص العجلات في الوحل وينزلق الباص عن الطريق ، تارةً يدفعونه ، واخرى يحفرون ممراً للعجلات ..( طريق الأربع ساعات هذا تقطعه السيارات الحديثة اليوم باقل من خمس وأربعين دقيقة فقط ) .. لقد احتفظ الباص الخشب بسرّهِ وقوّته وها هو ذا يعدو ويواصل المسير في الشوارع غير مكترثٍ لكهولةٍ حلّت به .
هو وجه الماضي في قناعِ حاضرٍ لم يستطع الأفلات منه !
– هذا دريولنه الورد …
سائق الباص الخشب يسمّونه ( دريول ) وهي على ما نعتقد كلمة مشتقة من ( درايفر Driver ) وتعني السائق .. كانت الأعراس تعجُّ بهذا النوع من السيارات ن وربما للشبابيك العشرة الموجودة على جانبي الباص اعطت للأطفال فرصة لمدِّ رؤوسهم والتحدث مع المارة ومعاكستهم .. أنت تسمع صياحهم وكركراتهم ، وهم يرددون : ( هذا دريولنه الورد … هسّه يوصّلنه ويرد ) من باب إرضاء السائق المنهمك .
في الحوضين الخلفيين اللذين يحملان ( العِبرية ) ( بكسر العين ) – والعبرية هم الركاب وهي على ما نعتقد كلمة مشتقة من مفردة العبور فالراكب ما هو إلا عابر بواسطة الباص – بنسقين متقابلين ، وكخطوة تجديدية ( تحديثية ) وضع سائقو الباصات الخشب جهاز الراديو في باصاتهم ومن ثم المسجّل ( جهاز التسجيل ) حيث تستطيع أن تسمع اغاني الخشّابة ( ابو عوف وأبو عتيكة وربيّع ) .. وعلاقة الباص بالخشابة علاقة تزامنية حيث تزامن ظهوره مع هذا اللون من الغناء الشجي .. وكانت فرق الخشابة تنتقل من ابي الخصيب والزبير والفاو بواسطة هذه الباصات .. وكانت تُجرى بعض ( البروفات ) في داخل الباص خلال رحلة الفرقة حيث مكان الحفلة .
– مما يحتويه الباص الخشب :
يتكون الباص الخشب من ثلاثة أحواض في الداخل تسمّى ( الخانات ) ..
في المقدمة : خانة القيادة – السائق – وهناك فسحة لمقعدين على جانبه الأيمن .
في الخانة الوسطى : مقعدان طوليان متقابلان ، كل مقعد يتسع لأربعة أشخاص .. وغالباً ما يوضع مقعد متحرك على شكل ( طنبورة – دكة ) في الفضاء الشاغر..
الخانة الخلفية ، ( ولا اعرف لِمَ أطلق عليها العامة خانة الشواذي !!) هي نسخة طبق الصل من الوسطى من حيث المقاعد وعدد الركاب . وغالباً ما يُحشر الأطفال في هذه الخانة في الأفراح والأعراس .
في مؤخرة الباص من الخارج ثمة دكة افقية تحمل سلّماً يؤدي إلى سطح الباص غالباً ما يقف فوقه الراكبون .
يحتوي الباص على عشرة نوافذ بزجاج متحرك ( سلايد ) موزعة على الجانبين .. وهيكله مصنوع من الخشب الجاوي المقاوم للظروف المناخية ومغلّف بالفورمايكا .
– كتابات .. كتابات
لا ندري مَنْ كتبَ أول جملة على بدن الباص الخشب : ( سيري وعين الله ترعاك ) لافتات تتجول مع الباص .. يقرأها كل المارة .. لا تخلو من حكمة ، ومن طرافة .. وبعضهم من يحلو له أن يسمّيها باسم محبب له :
– محبوبة أبو الهيل ، البصراوية ، الملحة !
ولا ينسون إن يضعوا تعاويذ وأدعية لتحرسها والراكبين :
– محروسة سبع الدجيل ، الله ومحمد وعلي ، محروسة ام البنين ، يا داحي الباب …….
ومما شاهدناه من جمل نوجز بعضها اختصاراً :
– قاطعة الصحراء
– لا تلحقني مخطوبة
– أم اليبابي ( غشارة إلى جزيزرة أم الجبابي في أم الرصاص / البصرة )
– القلب يعشق قبل العين أحياناً
– لا تسرع يا بابا نحن بانتظارك
– مناجاة :
ترى ، هل انتهى زمنك ، أيها الخشب المسافر من مكان إلى مكان وآن الأوان لترقد بسلام ..؟
اشكُّ انكَ ستتوقف بعدما ربطت زمانين من قرنين مختلفين ..
ما زلت تمنح الطريق بهجته ..
تترفق بالعابرين من أطفالٍ ونساءٍ وشيوخ .
تحملُ نكهةَ الـ (1955) و الـ ( 1956 ) وما بعدهما ..
تعلمنا أن السياقةَ فن وذوق وأخلاق ..
فما زلت بأخلاق المس تحمل أماناتك في صدرٍ رحبٍ ..
لا تزعج راكباً ولا عابراً ..
ولا تجاوزت الطريق !
دؤوبٌ مثل صاحبك ،
قويٌّ مثل زمان مضى ..
كم عابرٍ حملتَ أنفاسَهُ ، وتحملتَ ثرثرات المستطرقين !
ابو الطريق : انت
وابن الزمن البار .
أيها الباص ؛ الباص الخشب .
سليل البهجةِ والجمال .
تودعك الشناشيل وتستقبلك
مثل عاشق نبيل
الحوار المتمدن-العدد: 1400 – 2005 / 12 / 15
اترك تعليقا