ماء صالح للشرب حلم أهل البصرة الأزلي
تحقيق: عبد الكريم العامري
قال الله تعالى في كتابه الكريم (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، آية اختصرت الحياة وإشارت لخليفة الله في الأرض أن يستثمر تلك المادة من أجل استمرار الحياة على هذه الكرة الأرضية.. ومشكلة الماء بدت في السنوات الأخيرة من القرن الماضي سبباً في كثير من النزاعات الدولية خاصة بين تلك البلدان التي تشترك في مصدر مائي واحد، والعراق رغم اشتراكه مع بعض دول الجوار في المياه، نهر دجلة والفرات وشط العرب، الا أنه مكتفٍ بما لديه من مياه خاصة وأن هناك كثير من الأنهار الصغيرة التي تحيي الزرع والأرض ناهيك عن منطقة الأهوار التي يبست خلال سنوات مضت مثلما يبس الإنسان في العراق جراء الحروب والحصار.. لكنه رغم ذاك فقد صبر وصبر ومازال صابراً على أمل أن يتحقق الحلم الأزلي للعراقيين في ماء صالح للشرب..
وماء صالح للشرب هذه بدت مثل عقدة، لا بل صار العراقي يتناقلها سخرية لا انتهاء لها.. يقال ان أحدهم واسمه (جاسم) يمتلك (تنكراً) للماء الصالح للشرب يوزعه على العامة مقابل اجر، جاء هذا الى الخطاط وطلب منه أن يخط على جانبي التنكر جملة (ماء جاسم للشرب) ولما استغرب الخطاط من الجملة قال له مازحاً:
– كيف يمكن ان نقول ماء جاسم للشرب.. هذا لا يمكن..
رد عليه صاحبنا واثقاً:
– كيف لا يمكن وشقيقي (صالح) كتب على تنكره ماء صالح للشرب!!
هذه الطرفة تمثل الواقع المأساوي لتفكير العراقي أزاء الماء، تلك الهبة الإلهية والتي غدت أرقاً يومياً له ولعياله..
في فصل الصيف، تظهر الحاجة الملحة للماء، في الجنوب العراقي خاصة ، ذلك لأن المنطقة لا تحتمل بلا ماء.. جفاف وعطش، وحرارة شمس تشوي (الصبور) مثلما كان يقولها جاري.. ولأننا في القرن الحادي والعشرين، وهذا أمر يجعلنا نخجل من أنفسنا اذا رأينا (نسواننا) يحملن (الجلكانات) ويملأنها من الأنهار.. مشهد لم يره عراقيو الستينيات، فكيف بنا ونحن ندخل عالم الفضاء؟
في الحرب الأخيرة ، وحين احرق النظام بعض آبار النفط وغدت السماء مثل عباءة سوداء، كانت إرادة الله تعالى أن تنظف المكان ، فأمطرت ، وتوزع المطر الأسود ليملأ كل أرض البصرة.. حينها كانت النسوة والأطفال يملأون (الجلكانات) بالماء الأسود ، كان أملهم بإنتهاء أزمة الماء وبقية الأزمات التي عاشوها مع سقوط النظام.. وصبروا صبراً جميلاً غير آبهين فيما يجري وسيجري.. كل ذاك وثمة امل يحدو بهم حيث الحياة الحرة السعيدة الهانئة.. ولكن…..!
كم صيف مر، وكم أزمة مرت ، والأمل بدأ يصغر.. ويصغر.. ويصغر.. حتى تلاشى وحل محله يأس غريب من حياة لا يمكن أن تستقر الا بإنتهاء تلك الأزمات.. العراقيون نسوا في الشتاء أزمة الماء، أو تناسوها لينشغلوا بالنفط.. (في الشتاء لا تكون الحاجة كبيرة للماء مثلما هي عليه في الصيف) قال ذلك محدثي الحاج عبد العظيم الجاسم ، واسترسل يقول : (والله ما أدري شرد أقول لك.. في الستينيات لم تكن هناك أزمة ماء.. كان الناس في منطقة المعقل يمتلكون أنبوبين للماء، واحد للماء الصالح للشرب والثاني للسقي..) ضحك ضحكة طويلة ثم قال : (ماء للسقي.. أتصدق هذا؟ اليوم ما عدنه الا هذا الماء غير الصالح للشرب.. الماء المصحوب باللون والطعم والرائحة!!) وأشار الى ساقية قريبة منه ثم أردف قائلاً: ( شوف ذيج الحفرة.. منها ننكل الماء!) ولأني لست من سكان المريخ إنما من أهل البصرة فلم أنظر الى ما أشار اليه لأن الحفرة التي شاهدتها عند احد الأصدقاء والتي ينقلون منها الماء وهي امتداد للمجاري المسدودة تكفيني تخيلاً بمعاناة هذا الشيخ..
في منطقة حي المهلب، وهي من المناطق القديمة من البصرة استغربت اذ لم ار ماء فقد كانت شكوى الناس مؤلمة ، كلهم اكدوا ان الماء الذي يحصلون عليه ليس سوى ماء للمجاري ، وهناك إصابات لأطفالهم جراء تلوث المياه.. في مناطق اخرى من البصرة، الجمهورية، الحيانية، خمسميل ،الكزيزة ،امطيحة وغيرها من المناطق الفقيرة تعاني من أزمة ازلية في الحصول على الماء الصالح للشرب..
قال لي طالب جامعي : (ان التجاوز على شبكة المياه من قبل بعض الناس جعل منظومة الماء ضعيفة.. والتجاوز هذا يشمل ثقب الأنبوب الناقل واستخدامه لأغراض صناعية!!) ونعتقد ان هذا التجاوز (ولا نريد ان نبرر لأحد) جاء في بعض الأحيان لأسباب يمكن قبولها اذا علمنا ان كثير من المناطق جميع أنابيبها (يابسة) لهذا يضطر بعض الأهالي الى ثقب الأنبوب وسحب الماء منه !! هذا عمل (شائن)، نعم، هو كذلك، ولكن ماذا عن حالة الناس الذين لا حول ولا قوة لهم ، ولا حل لهم الا في ذلك.. لهذا ندعو الى تأهيل تلك الشبكات لكي يصل الماء الى كل بيت..
• مسابح في الفضاء:
الأطفال أكثر فئات المجتمع تحسساً بالصيف لطبيعة أجسادهم الضعيفة وحاجتهم الى الماء ليس الصالح للشرب وحسب انما ماء الاستحمام ، ولأن المدن العراقية تخلو من المسابح فقد انبرى أطفالنا للسباحة في الأنهار المليئة بما تلفظه شبكة المجاري وهذا ما يؤثر على صحتهم وهو أمر طبيعي.. شاهدنا أطفالاً يسبحون في برك صغيرة.. فرحين وسط تلك القمامات ظانين ان تلك المجاري سترد عنهم حر الصيف! هذا الحال يؤلم كل عراقي غيور على أبناء بلده، وهو حال لا يسر، فكيف ندع أبناءنا يقذفون بأجسادهم حين الأوبئة والأمراض الفتاكة ؟
قال لي طفل: (أننا نمرح اذ نتعلم السباحة)
– لماذا لا تذهبون الى الشط؟
– لا نعرف السباحة!
– هل تتعلمونها هنا؟
– نعم، وبعدها ننتقل الى الشط..
في الشط ، هناك ثمة أطفال ، يعرضون أنفسهم للغرق ، خاصة وأن الشط غير آمن.. ازدحمت الأجساد الصغيرة حول زورق من زمن الحرب، يمتطونه مثل حصان ، ويقذفون بأجسادهم المدهونة بالطين في الماء.. مشاهد متعددة على امتداد شط العرب نأمل أن لا نشاهدها في الزمن اللاحق وان تستحدث مسابح خاصة للأطفال والشبيبة من أجل ان نحافظ على صحتهم العامة.
* ماء :R.O
بدأت قصة أهل البصرة مع الماء (R.O) مع نقص الخدمات المقدمة الى أبناء المدينة ، أبان النظام السابق، بفعل الحروب المتكررة والحصار الذي أكل الزرع والضرع.. وهو ماء صالح للشرب يباع للناس وقد حل ولو بجزء بسيط منه أزمة الماء ولكن هناك من الناس ممن لا يستطيع سد المبالغ الكبيرة للحصول على الماء.. ماء (الآر. أو) صار منقذاً لأهل البصرة بعدما ظهرت إصابات كثيرة بالتايفوئيد او حصى الكلى.. فأستحق بذلك وساماً!
• مقترحات:
كثيرة هي المقترحات التي استمعنا لها من الناس، وكلها تصب في سبيل إنقاذ أرواح الناس وسلامتهم وحصولهم على ماء نقي صالح للشرب.. لأن الماء يدخل في جميع الجوانب الحياتية للعائلة.. فهناك من امتعض من مشاريع الإعمار التي لم تضع بالحسبان توفير الماء للمواطن وطالبوا بتخصيص مبالغ كافية لتأهيل شبكات الماء وإنشاء مجمعات جديدة.. وهناك من قال أن على الدولة ان تلغي الشبكة القديمة وتقوم بإنشاء شبكة جديدة مبنية على أسس علمية صحيحة وأن ترصد لها الأموال لكي تغطي جميع مناطق البصرة..
هناك مقترح جدير بالمناقشة هو الاستفادة من خبرات الشركات الأهلية العراقية أو استثمار تلك المشاريع محلياً أو عربياً أو أجنبياً ونعتقد ان الدولة ستقدم للمواطن العراقي خدمة لم تستطع كل الحكومات السابقة تقديمها له..
بقي أن نقول أن البصرة بأهلها وزرعها تنتظر القائمين على أمرها في أن يثلجوا الصدور ويرفعوا المعاناة التي أثقلت كاهلهم ليتجهوا نحو البناء والعمل الجاد من أجل إكمال ملامح التجربة الديمقراطية في العراق الجديد.
نشر التحقيق في موقع الناس وجريدة المنارة الجمعة 27/10/ 2006
اترك تعليقا