مطابع البصرة ما بين شانكرلآل والريزوغراف حديث هادئ مع شيخ الطباعين بالبصرة

منذ إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وبدأ مشهد المعسكرين يتضح بسقوط إمبراطوريات وديكتاتوريات ومدن كبيرة.. كان العراقيون على موعد مع طباعة الحرف، ونحن هنا نحصر تحقيقنا في مدينة البصرة، لأن الطباعة دخلت الى العراق قبل هذا التاريخ في العاصمة بغداد..
كنت على موعد مع واحد من أوائل الذين عملوا في المطابع، لم يكن الموعد مصادفة انما كان بعد اتفاق طال لأكثرمن عام، كنت أتحدث مع أبي حيدر (وهذه كنيته) عبد الرضا جايد فعيل العيداني (وهذا اسمه)، شيخ الطباعين في البصرة، كان يومها قد منح نفسه فترة استراحة من العمل بعد ان ترك ماكنة الطباعة ترتاح هي الأخرى لساعات معدودات.. لم يقل هو ذلك لي لكنني شعرت به من جلسته التي رأيت فيها كل تعب السنوات التي خلت.. بدأ الحديث متقطعاً، وربما استغرق عدة ايام وربما اشهر، كلما التقي به اطرح عليه سؤالاً مستفسراً عن شيء ما يتعلق بالمطابع، وكنت أسجل ذلك في ذاكرتي، حتى تراكمت المعلومات ولم تعد الذاكرة تسعفني خاصة بعد أن بدأت تختلط عندي الأسماء والتواريخ وأسماء المكائن وماركاتها.. عندها بدأت اكتب في دفتري الكشكول بعض تلك الملاحظات.. حاولت ان أصوره مع الماكنة التي أحبها (هايدنبرغ) لكنها لم تكن موجودة في المكان الذي كنا نلتقي فيه.. في استراحته التي يستأنس لها حيث الشاي الحار ونومي البصرة والنارجيلة في احدى مقاهي البصرة وفي زقاق ضيق من أزقة العشار جمعني به حديث.


• مطابع وأوائل:
قلت له: حدثني عن أول المطابع التي عملت فيها او عاصرتها؟
قال بعد إن حاول استرجاع ذاكرته لسنوات مضت ولعمري انه الآن يضغط زر الاسترجاع في جهاز تسجيل ذاكرته، عملية أشبه بـ(الفلاش باك) الذي نشاهده في أفلام السينما، وهو الآن يحاول ان يصطاد تلك السنوات بسنارة الحاضر وهذا ظهر بوضوح لي إذ رأيته يغمض عينيه مزيحاً عن كاهله غبار عقود خمس تركت آثارها على وجهه.. قال لي بعد فترة ليست بالطويلة: بعد الحرب العالمية الثانية في أربعينيات القرن الماضي كانت هنا مطبعة التايمس وهي انجليزية مديرها شخص هندي إسمه (شانكر لال) وقد جاء هذا الهندي الى العراق في الفترات التي تم فيها احتلال العراق وبقي فيه وقد كان من مرتبي الحروف عدد من الهنود أيضاً باستثناء شخصين الأول من البصرة واسمه (عبد القادر جاسم الضاحي) وهو حي يرزق بإذن الله وشخص عربي آخر اسمه (يحيى حسن) وقد توفي رحمه الله.
قاطعته قائلاً: وانت هل عملت في التايمس؟
ابتسم مجيباً: نعم عملت فيها منذ عام 1953
قلت: وهل كانت الطباعة بالعربية أم بالأنجليزية..؟
اجاب: بالإنجليزية وكانت اشغالها تجارية اضافة الى طباعتها جريدة (بصرة تايمس) بالإنجليزية.
• وكيف كان يتم العمل في جريدة بصرة تايمس؟
– كانت العمل يجري على قدم وساق، وكان يرتب الحروف الأنجليزية مرتب الحروف (موني)استلم العمل من الهندي عبد الغفور محمد علي و (بابو) وهؤلاء يرتبون الجريدة.
• هل كانت تطبع بالألوان؟
– لم تكن الألوان قد دخلت بعد فقد كانت تطبع باللون الأسود وبطريقة (لتر بريس ((Letter Press
• والمطابع الأخرى؟
– هناك مطبعة الشرقية وهي اهلية وصاحبها (بولص كوكي) وهو عراقي مسيحي.. وايضاً مطبعة الأديب ومطبعة شط العرب لصاحبها عبد الرزاق أبو احمد ومطبعة البصرة وهي نفسها مطبعة العبايجي ومكانها في سوق المغايز. ومطبعة حداد لصاحبها الأديب المرحوم يوسف يعقوب حداد (أبو مؤيد) وكل هذه المطابع كانت في زمن الحكم الملكي أي قبل عام 1958، اما في العهد الجمهوري الأول فقد تم تأميم مطبعة التايمس واصبحت تعرف باسم مطبعة الأوقات العراقية.. وهناك ايضاً دار الطباعة الحديثة وهي (أهلية) وصاحبها مجيد الشيخ..


• وماذا عن الصحف التي كانت تطبع آنذاك عدا صحيفة بصرة تايمس التي ذكرتها؟
– في العهد الملكي كانت هناك جريدة الدستور وصاحبها احمد العامر وجريدة البصرة لكامل العبايجي.. اما في العهد الجمهوري فقد كانت جريدة الأهالي والطليعة للحزب الشيوعي العراقي ونداء الأهالي خلال حكم الزعيم المرحوم عبد الكريم قاسم.. وكانت تطبع في مطبعة حداد جريدة النهار وهي ادبية صاحبها عبود شبر وايضاً كانت تطبع في ذات المطبعة جريدة الجنوب وهي رياضية وصاحبها كاظم جبارة وجريدة اخرى اسمها جريدة القوة الجوية.
• وهل عملت في طباعة هذه الصحف؟
– عملت في عدد منها وقد كانت البصرة تضج بحركة ادبية ورياضية وكان قراء الصحف رغم الوضع الإجتماعي الصعب أبان العهدين الملكي والجمهوري ولكن كان هناك شباب يقراون الصحف وهم من الطبقات المثقفة.. وقد بقيت في العراق حتى عام 1968 حيث خرجت من العراق هروباً الى دولة الكويت حيث عملت في الكويت ايضاً بعدد من المطابع واهمها مطبعة الأقتصاد ومطبعة الخليج حيث كنت حينها اعمل في تربية الكويت.
• وكيف كانت الرقابة على الصحف آنذاك؟
– ايام الحكم الملكي لم تكن هناك رقابة صارمة ولكن بدأت الرقابة بعد ان بدأت الأحزاب تعمل وتصدر الصحف.
• وما الفرق ما بين العهدين الملكي والجمهوري فيما يخص تقنيات الطباعة؟
– فرق كبير، ففي فترة الحكم الملكي كانت مكائن الطباعة تعمل على (لتر بريس(Letter Press  اما في العهد الجمهوري فقد استوردت مكائن الطباعة )اوفيسيت).وايضاً في العهد الملكي كانت الطباعة يدوية والطبع يدوي بحيث يتم ورقة بعد اخرى أما في العهد الجمهوري فقد كانت الطباعة اوتوماتيك!
• هل نستطيع ان نعرف اسماء المكائن؟
– نعم، اولها ماكنة اوتوماتيك لتر بريس في التايمس البريطانية تستخدم )الزنجيل) وهناك ماكنتان منها.. وماكنة (هايدنبرغ) جلبها المرحوم يوسف يعقوب حداد وتمتاز بسرعتها وفيها ذراعان للطبع يستخدمان للتسليم والإستلام ونتاجها (5000) نسخة في الساعة.. وهناك ماكنة أخرى من نوع (مارسيدس) وهي أكبر حجماً من الهايدنبرغ ويتم فيها طبع الصحف..
• وما نوع الأحبار المستخدمة آنذاك؟
– نوع من الأحبار وهو Letter Ink وهذا النوع يجفّ سريعاً وقد تطورت الأحبار ولم تبق على ما هي عليه.
* ما الحدث الذي ترك اثراً في ذاكرتك عن مطابع البصرة؟
– اتذكر اننا كنا نطبع احد اعداد الصحف في عام 1957 وكان الاحتفال بتتويج الملك فيصل الثاني حيث التصقت عملة معدنية من فئة اربعة فلوس في عين صورة الملك وطبع العدد ووزع في السوق وقام الامن في حينه بجمع الاعداد من السوق وتم التحقيق مع عمال المطبعة.
• كيف كان فعل أجهزة الكومبيوتر على تلك المطابع؟
– عند دخول الحاسبات (الكومبيوتر) انقرضت الطباعة بواسطة الـ(لتر بريس) وحل محلها الطباعة في (الريزوغراف) ومن الطبيعي ان يكون التأثير كبيراً على عمل المطابع القديمة وذلك للسرعة الفائقة التي يمتاز فيها الكومبيوتر أضف الى التصميم المرن الذي يتم من خلاله.
• وما أهم المطابع الموجودة الآن؟
– هناك العديد من المطابع ومنها مطبعة شط العرب ومطبعة حداد ومطبعة الرسالة ومطبعة أحمد كاظم العلي ومطبعة الأديب ومطبعة الغدير ومطبعة الجامعة ومطبعة البصرة وغيرها.
*الحرف الأخير:
غادرنا ابا حيدر بعد ان سجلنا معه شوطاً لسنوات مرت كأنها البرق كما وصفها لنا وهو ما زال يتذكر اول اللحظات التي مسك فيها الحرف ليضعه في المكان الصحيح ليكوّن جملة من عدة حروف ومقاطع ليراها بعد حين مطبوعة على ورق ينظر اليها فرحاً ولسان حاله يقول (هذه الجملة من صنعي انا).. هي فرحة الإنسان بالكشف والتجربة وفرحته بانتاج شيء قد يثني عليه كل من رآه..
وللحق أقول، أنني إذ أطبع هذا التحقيق في جهاز الكومبيوتر تتقافز أمامي الحروف حرفاً حرفاً لتشكل ثيمة هذا التحقيق الذي ما زال يبحث عن كثير من حكايات الزمن البعيد.

Share: