علاّقة البيت * صاحبتنا قليلاً وخاصمتنا كثيراً!

يوم كنّا صغاراً، ما كانت فرحتنا لتكبر إلا برؤية أمهاتنا وهنَّ يرجعن من السوق حاملات العلاَّقات المملوءة بالعافية… وكما نتحلَّق حولهنَّ مثل العصافير لنحظى بحلقومة أو تفاحة أو أي شيء جلبنَّه لنا خاصةً في أيان رأس الشهر حين يتحصَّد الأمهات جيوب الآباء ويفرغنَّها!… وتبدأ تلك العلاَّقات بالنحول كلما امتدت الأيام وابتعدت عن يوم الراتب حتى يصل الأمر إلى أن تخاصمنا العلاّقة لأيام كثيرة فنفقد شهية انتظار لأمهات…!
(العلاَّقة) معدة البيت، إذا ما فرغت أصيبت الدار بالوهن، وإذا امتلأت حلَّت العافية.. وهي بيت الداء أيضاً، بسببها تنطلق معظم شرارات الخلافات العائلية ولا تقول الزوجة.. وبسببها أيضاً يعمَّ الاستقرار في المنزل (العلاّقة) شاغل العائلة العراقية الأكبر، بل هي شاغل معظم أفراد العالم الثالث الذي كنا ننتمي إليه قبل أن ننزل إلى العالم العاشر!.. وهي (كبرت أو صغرت) مثار اهتمام أرباب الأسر.. 
أحياناً، وأنا أدخل السوق المزدحمة بالنسوة، تراودني فكرة قد تبدو سخيفة وربما ساذجة وهي أن (العلاّقات- وبعضهم يجمعها العلاليق!) تتحاور فيما بينها، فكلما التقت واحدة بأخرى سألتها عن أحوالها: 
• كيف الحال اليوم؟
– حالي لا يسر، لا شيء سوى الباذنجان..
• أنتِ أفضل مني فأنا منذ أربعة أيام لم أرَ السوق!
وهناك (علاّقة) ثرثارة تصيح: 
– يا للهول! أنظروا إلى صاحبة البطن المنتفخة، منذ أن حملت الموز أضحى كلامها بالمثاقيل!
وهكذا تستمر الأحاديث، شبه بالحركات الكارتونية في شاشة الواقع العراقي المرير.
مرة سألت نفسي، لِمَ تصنع أغلب (العلاّقات) من أكياس الطحين؟ بقي هذا السؤال بلا إجابة لكنني أقنعت نفسي بأنها طريقة عراقية للثأر من الطحين يوم قصم الطحين ظهورنا أبان حصار السنوات العجاف!
* علاَّقات حصارية:
أغلب النسوة العراقيات يتفنن في صنع (العلاّقة) حين يصنعنها بأيديهن.. وهناك من تشتري واحدة جاهزة..
في أيام الحصار المقيتة، استخدمت أكياس الطحين، فالكيس الواحد يكفي لأثنين، كما أنه من السهولة التي تطرّز تلك الأكياس بخيوط ملونة وترسم بواسطتها مختلف الرسوم ومن الغريب أن ترى رسماً لتفاحة في الوقت الذي لم تدخل واحدة في الكيس! (أتحدث هنا بضمير الناس البسطاء وليس بشراهة مسؤولي تلك الأيام السوداء). 
كثير من العوائل اعتاشت على بيع تلك (العلاَّقات) والكاتب واحد من أولئك الناس الذين هصروا تحت عجلات الحصار.. 
علينا أن نضع تاجاً على راس تلك (العلاَّقة) وهو أقل ما يمكن أن نقدمه من امتنان لها!
وعلينا أن نصنع تمثالاً لها وهي تستحق ذلك.. 
• رجال وعلاَّقات: 
خلال سنوات الحروب القاهرة، والتي زُجَّ بالرجال في محارقها، اهتمت المرأة بشؤون أسرتها بشكلٍ مضاعف، فزاولت أعمال الرجال، وحملت مشقة الوظيفة ومتابعة الأولاد في مدارسهم، والتسوُّق اليومي وهو ما يجعلها وظيفة دائمية لأمهاتنا وزوجاتنا، وقليل من النسوة من لا يخرجن للتسوُّق، وقليل من الرجال ممن يخرجون للتسوُّق وما بين القليلين تجولنا، واستفسرنا: 
• أيهما أفضل في التسوُّق المرأة أم الرجل؟ 
– قال (عصام عبد الأمير- معلم) المرأة. 
• لماذا؟
– لأنها تعرف حاجة البيت. 
• ولكن هناك رجال يعرفون بحاجات بيوتهم أكثر من نسائهم؟
– قليلون جداً… بالنسبة لي أحياناً تزودني أم العيال بقائمة طلبات إذا فرغت من الوظيفة.. لكنها تعاتبني لأنني لم أشترِ بالسعر الذي تريد. 
• هذا يعني أن المرأة تعرف سر مهنة السوق!
– بالأسعار نعم، بل قل أنهنّ (يداهرن) أكثر والرجل لا يستطيع أن يقوم بذلك!
• وأنت، كيف هو الحال معك؟ 
– أسأل فقط عن سعر الحاجة وأدفع دون أن أطلب من البائع أن ينزِّل لي في السعر ثم أن أغلب البائعين يستهزأون بالمشتري.! 
قالت (أم محمد- ربة بيت):
– نحن أعرف باحتياجات المطبخ وأيام الحصار علَّمتنا الكثير.
• لكن هناك رجال يعرفون بمطابخكن أكثر منكن..
– حظ وبخت!
وراحت أم محمد تتحسر على (بختها) وكأننا ذكَّرناها بشيء ما.. ولكن ما بقي يدور في رؤوسنا هي تلك الصور المتداخلة لعلاَّقات (تروح وتجي) وهي تحمل ذاكرة المكان والزمان العرقيين. 

* علاّقة : مفردة عامية عراقية وهي كيس التسوق اليومي.

Share: